syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
محمود درويش بين أسطرة القصيدة، وتقصيد الأسطورة ...بقلم : د. غسان غنيم

خذني إلى سفرٍ
قليلٌ من الموتِ في شريانِ عودِ
خذني إلى مطرٍ
على قرميدِ منزلنا الوحيدِ
خذني إليَّ لأنتمي لجنازتي في يوم عيدي
خذني إلى عيدي، شهيداً في بنفسجة الشهيدِ
عادوا ولكن لم أعدْ
خذني هناك إلى هناك، منَ الوريدِ إلى الوريدِ.


غادر محمود درويش الحياة جسداً. في مشفى هيوستن في الولايات المتحدة ظهيرة يوم السبت في تمام الساعة 1.35 بتوقيت هيوستن لأي في الساعة 9.35 بتوقيت القدس) في 9/8/2008. وعاد إلى فلسطين (محمولاً على آلة حدباء) كما قال يوماً لصديقه حسن خضر (سأعود حتى على خشبة).


وما إن توقف قلبه وأذاعت محطة (الجزيرة) الخبر، حتى أحس كل من عرف محموداً، بأية طريقة كانت، عن قرب، أو من خلال أشعاره، أو من خلال قصائده المغناة، أو من خلال أمسياته حية أو منقولة، أنه قد خسر صديقاً، أو قريباً، أو عزيزاً.. ومن عرفوا شعره وأثره، أحسوا أنهم بفقده فقدت فلسطين بعض زيتونها، أو زعترها البري، أو صخرة بَنوْا فوقها عمارات الأمل بكل ما هو متألق في مأساة فلسطين، ومأساة العرب في العصر الحديث. هؤلاء أحسّوا لوعة الفراق وفجيعة الخسارة الوطنية والإنسانية بفراقهم شاعر الزيتون والزعتر البري، ورائحة المطر، وعبق فلسطين الذي يوطّد فيهم الأمل بأن لا موت.. ولا فناء.. ما دام هناك غناء، وشعر.
شاعر شكل أسطورة شعرية في زمن تحوّل الشعر فيه إلى معادلات لغوية من الدرجة الثالثة، لا غناء ولا شدو ولا منارات قصية..!
لفت درويش الانتباه إليه باستخدام الموروثات، الدينية والأسطورية، وتوظيفها في قصيدة غنائية أو ملحمية، لتبث أكثر بكثير مما تحمله من حروف وكلمات.


وقد رافقته هذه الخصلة منذ دواوينه الأولى.. حتى آخر ما كتبه. مما جعل منه، وإن لم يكن البادئ في هذه الآلية أو الأداة الفنية، واحداً من أبرع الشعراء في الاستخدام والتوظيف، بحيث تتجلى القصيدة إيقاعاً متبادلاً بين الفانتازيا والأسطورة، والواقع المتمنى، أو المبشَّر به، فتستولد المستوى المناسب بين الحضور والغياب لخلق ما هو تراجيدي بين الراهن والمأمول، من دون أن يلغي الواحد الآخر، لتتشكل القصيدة عبرهما، وتشكل تركيباً فنياً جمالياً، ومعنوياً فاعلاً.
ومن ذلك ما نجده في قصيدة قديمة بعنوان (في انتظار العائدين) مستخدماً قصة البطل الأسطوري (أو ليس) في (الأوديسة) الهوميرية، وإصراره على العودة إلى (إيثاكة) (فلسطين) المشتهاة، لكل أبنائها الذين غادروها، وينتظرون.


أكواخَ أحبابي على صدر الرمال
وأنا معَ الأمطارِ ساهرْ
وأنا ابنُ (عوليسَ) الذي انتظرَ البريدَ من الشمالْ
ناداه بحارٌ ولكنْ لم يسافرْ
لجمَ المراكبَ وانتحى أعلى الجبالْ
يا صخرةً صلّى عليها والدي لتصونَ ثائرْ
أنا لنْ أبيعكِ باللآلئ
لن أسافرْ
لن أسافرْ
لن أسافرْ.


نبه نعوم تشومسكي إلى أن حركة التركيب اللغوي يقوم على توليد عدد من البنى العميقة، ويرسم اتجاه الصياغة في البنية السطحية، والبنية العميقة. التي تؤشر إلى الدلالة.
ودرويش يقوم بتوظيف التراث الأسطوري، أو الديني ليضبط محاكمة القارئ وحدسه الجمالي في التعامل مع النص، ليتوجه إلى مستويات دلالية وتجريدية تطلق العنان للمخيلة، لتصل إلى فهم أو حدس التركيبات التي يود الشاعر أن تصل.. فالجزئية الأسطورية التي اقتطعها من الأوديسة ومن أسطورة (أو ليس) (عوليس) وقصة عودته إلى مدينته (إيثاكة) مستخدماً جزئيات من الأسطورة الغنية بمواقفها وأحداثها الدالة، ومنها انتظار (تليماك) ابن عوليس لعودة أبيه، وإيمانه الذي يماثل إيمان أمه (بنسلوب) أن عوليس حي، وسوف يعود ظافراً، ليتولد في وجدان المتلقِّين، حتمية عودة أبناء فلسطين إلى (إيثاكة) الحبيبة الجديدة فلسطين.


فها هو ذا (ابن عوليس) الذي توحد بالشاعر عبر غنائية جاذبة (وأنا ابن عوليس الذي انتظر البريد من الشمال)، يقف متشوفاً نحو الشمال، يترقب عودة الغائبين المنتظرة، ويرفض أن ينصاع لنداء البحر له بالسفر.. فما كان إلا أن (لجم المراكب، وانتحى أعلى الجبال) فهو الوفي (لإيثاكة) يرفض أن يتخلى عن أرض (إيثاكة) الحبيبة (فلسطين) واتخذ من الجبال ملاذاً، ليكون ثائراً من الثوار الذين يتخذون من أعالي الجبال مقاماً، ويرفضون نداءات البحر والنوارس مهما علَت في داخلهم. وبذلك يتجلى التناغم والاتساق بين البنيتين العميقة والسطحية.


ثم ينتقل درويش إلى مستوى آخر من التوظيف للتراث في هذا المقطع. فالصخرة مفردة تحمل في السياق اللغوي، وفي السياق التاريخي والجغرافي للمنطقة، دلالات متعددة ومستويات مختلفة، ففي البعد المجازي، تحيل إلى التجذر والثبات، والتمكن في المكان، وعلى المستوى المقدس قد تحيل إلى قبة الصخرة، وما لها من مكانة مميزة في قلوب أهل المنطقة وعقولهم، وهي على المستوى الجغرافي، وتحيل إلى فلسطين فقدسيتها، ترجحها البنية اللغوية التي وضعها بها الشاعر.


فهي صخرة صلى عليها والده، وهي تحيل إلى فلسطين (والولد الغائب يكتسب قدسية)، وهي تحيل إلى قبة الصخرة بكل ما تحمله من موروث مقدس، لتندمج هذه المستويات جميعاً لتشكل فلسطين بكل قدسيتها التي لا يضاهيها ثمن مهما غلا وارتفع. فلا يبيع صخرته باللآلئ، ثم يتوحد البيع والسفر، ويتساوى في وجدان الشاعر كلا الأمرين، فالبيع يساوي السفر، فنراه يقول: (لن أبيعك.. ولن أسافر..) لتعطي هذه البنية السطحية التركيب العميق، والمعادل للتشبث بكل ذرة تراث من فلسطين.


يلفتُ النظرَ أيضاً قدرةُ درويش على التلاعب بجزئيات الأسطورة، فالانتظار في الأسطورة الأصلية كان لـ (بنلوب) زوجة أوليس، ولكن النص جعله لابن أوليس (عوليس) وهذا التلاعب ليس مجانياً أبداً، بل لينقل الوفاء إلى أبناء فلسطين كلهم، فكل فلسطيني صار (تليماك) الذي ينتظر الأمطار وخيرها، والبريد الذي يحمل البشائر بعودة الغائبين.


فدرويش، لا يتناول التراث الأسطوري تناولاً استاتيكياً جامداً بل يتجاوز ذلك إلى التلاعب بالجزئيات للوصول إلى أعمق المستويات، ولإثارة أبعد التركيبات وأعمقها في عقل المتلقي ووجدانه، عبر شحنة رمزية تتوسل الأسطورة بكل غناها وتمثلاتها، معضودة مع المقدس، وما تثيره التمثيلات المقدسة في نفوس المتلقين بأبعادها الأيقونية والشعائرية والإنسانية.


في الجدارية يحضر (جلجامش) و(أنكيدو) في بحثهما عن الخلود، لتتداخل البنى السطحية ممثلة بحكاية جلجامش، وبحثه عن الخلود بالبنية العميقة ممثلة بحضور الموت، وآلية قهره لدى محمود درويش، بعد أن جاوره وحاذاه إثر عملية جراحية في القلب أجراها في باريس، عاش في غيبوبة مدة يومين، ثم صحا بعدهما ليكتب انطباعاته عن الموت، وكيف يكون الخلود، فاستحضر قصة جلجامش في مواجهته مع الموت ليوظفها حاملاً وبنية، قادرة على تبليغ ما يراه هو في قضية الموت والحياة والخلود. ففي حضرة الغياب، لا بد من تأمل هذا الوجود، بكيانه الفردي، وبما تبقى من عمر لا يركن إليه. وتستطيع الكتابة والشعر أن تعطياه اتساعاً وفسحة ليدلي بما نسي أن يدلي به، برأي أو عبارة. ليظهر محمود درويش داخلاً وخارجاً، ولتشكل الذات الفردية موضوعاً شغل عنه زمناً، وآن له أن يفصل بين ذاته، والقصيدة التي صبغت بلون فلسطين.


تحضر أسطورة جلجامش في سياق (الجدارية) لتشكل بنية عضوية لا تنفصل عن بنية النص الدرويشي، بل يتخذ الشاعر من نفسه (جلجامش) جديداً ليسأل من جديد، وليضع أجوبة من جديد.
يقول متقمصاً وجه جلجامش إثر موت صديقه (أنكيدو):


يكسرُني الغيابُ كجرةِ الماءِ الصغيرة
نام أنكيدو ولم ينهض. جناحي نام
ملتفاً بحقنةِ ريشه الطيني. آلهتي
هاتِ أسلحتي ألّمعُها بملحِ الدمعِ ـ هاتِ
الدمع، أنكيدو، ليبكي الميتُ فينا
الحيَّ. ما أنا؟ من ينام الآن
أنكيدو؟ أنا أم أنت؟ آلهتي
كقبضِ الريح، فانهضْ بي بكاملِ
طيشِكَ البشريِّ، واحلمْ بالمساواة
القليلة بين آلهةِ السماء وبيننا. نحن
الذين نعمّرُ الأرضَ الجميلةَ بين دجلةَ والفراتِ، ونحفظُ الأسماء.


ثمة تداخل بين درويش وجلجامش، والموت يفرض حضوره، (بأنكيدو) فيذكِّره بالموت فيسأل: (من ينام الآن)؟
(ترفَّقْ بي وعدْ من حيث مُتَّ لعلنا نجدُ الجواب..).
فالموت الذي حضر بكل جبروته اقتضى منه البحث عن الجواب وما كان من قبل مهتماً به، ولكنه عاين الموت فحضر السؤال، وحضر جلجامش الباحث الفاشل عن الخلو.
وكما كانت رحلة جلجامش، كانت رحلة الدرويش معه باحثاً لتتشاكل البنية الأسطورية، بكل درتها على البث والإيحاء مع بنية القصيدة، وتستعير من الأسطورة عمقها الإنساني، مفجرة أسئلة وجودية، تحاول القصيدة أن تجد لها جواباً.


وليس بعيداً عن الجواب الذي اهتدى إليه مبدع جلجامش على لسان صاحبة الحانة التي صادفها جلجامش في طريق رحلته الشاقة:
(فيا صاحبة الحانة..! أيكون في وسعي أن لا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟


فأجابت صاحبة الحانة جلجامش قائلة له:
إلى أين تسعى يا جلجامش؟
إن الحياة التي تبغي لن تجد
إذ لما خلقت الآلهة البشر، قدرت الموت على البشرية.
واستأثرت هي بالحياة.
أما أنت يا جلجامش، فاجعلْ كرشك مملوءاً
وكنْ فرحاً مبتهجاً ليلَ نهار
واجعلْ ثيابك نظيفة زاهية
واغسلْ رأيك واستحمَّ في الماء
ودلّلْ طفلك الذي يمسكُ بيدك
وأفرحِ الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيبُ البشر..) 4


كأنما درويش تقمص الجواب الأسطوري فأسطر القصيدة، بجواب تلك الشخصيات التي اختبرت الحياة بعمق، كما اختبرها درويش بعد تجربة الموت المؤقت. وكأنما عاش تجربتَيْ (أنكيدو وجلجامش) وصاحبة الحانة. فاقتنع، بما وصلوا إليه، بل بما وصلت إليه أعمق التجارب الإنسانية، فحسمت الإجابة عن الأسئلة الوجودية حول خلود البشري، فإذا بجلجامش الجديد يصل إلى تلك القناعة:


كلُّ شيءٍ باطلٌ، فاغنمْ
حياتَكَ مثلما هي برهةٌ حبلى بسائلها
دمِ العشبِ المقطّرِ، عشْ ليومِك لا
لحلمِكَ، كلُّ شيءٍ زائلٌ فاحذرْ
غداً، وعشِ الحياةَ الآنَ في امرأةٍ
تحبذك، عشْ لجسمك لا لوهمك
وانتظرْ
ولداً سيحملُ عنكَ روحَك
فالخلودُ هو التناسلُ في الوجود
وكلُّ شيءٍ باطلٌ أو زائلٌ أو
زائلٌ أو باطلٌ..


ثمة استحضار للشخصيات الأسطورية، بل ثمة استعادة لأفكارها، وثمة لهجة توجيه في قصيدة درويش لم نألفها في شعره ـ إلا أقله ـ يعلم من خلالها .. (عش لجسمك لا لوهمك..) (إن الخلود هو التناسل) (كل شيء باطل..)، وكأنما درويش تقمص شخصية جلجامش (وهو الذي رأى كل شيء)، لتصير البنية الشعرية مندمجة إلى حد الاختلاط ببنية الملحمة، ولتحتم أصوات الشخصيات الأسطورية بصوت درويش،  فيصير أسطورة تتحدث بصوت المعرفة الأزلية العميقة، عبر تكامل المعنى بين النص الأسطورة ونص القصيدة، ولتتحول القصيدة إلى أسطورة درويش في قضية الموت والخلود. أسطورة الموت والخلود ـ السومرية تقدم بناء شعرياً متكاملاً يوظف إمكانات الأسطورة في البث والتأثير، والتجذر في بنية الإنسان، ليعطي القصيدة (الجدارية) بعدها الأسطوري، أي ليؤسطر القصيدة مبنى ومعنى، أي ليجعلها بنية أسطورية، وهو اسمى استعمال.. فني للأسطورة، وأرقى توظيف فني لها، وكأنما خمر ولا كأس، وكأنما كأس ولا خمر) ولتشكل القصيدة الصيغة الفردية في شعر درويش، بمقابل الصيغة العامة في سابق شعره، الذي ملأه بالناس والوطن والقضية.


تلك الصيغة التي حاول درويش طوال عمره أن يهرب منها، ولكنه واجهها بعد عدة عمليات، قاربه فيها الموت، ولا يغرّنّ بعضَ الدارسين، أنه قال في ثنايا الجدارية، (هزمتك يا موتُ الفنون جيمعها..) لأن الرؤيا التي تشمل القصيدة، هي الرؤيا الفردية التي تنطلق من واقع محمود درويش الإنسان الفرد، وليس محمود درويش شاعر القضية والوطن. الإنسان الفرد المكسور أمام جبروت الفناء والعدم. ولهذا يختم قصيدته (لاعب النرد) بقوله: (من أنا لأخيّب ظن العدم؟).
درويش فنان حقيقي في استخدام الأساطير، وقضية شاملة لأبناء الوطن، كما أبدع حين شكلت الأسطورة بعداً فردياً وعبرت عن هم وجودي لدرويش الفرد، فكان في كليهما فناناً صناعاً مبدعاً.

2012-08-13
التعليقات