في غمرة أحزان ذكرى رحيل الشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش نفجع برحيل مؤلم آخر، هو ترجُّل الشاعر العربي المصري حلمي سالم.
ثمة أشخاص لا تحتاج إلى بذل عناء كبير للوصول إلى قرارة نفوسهم، وعمق تفكيرهم، وحدَّة انفعالاتهم وقدرتهم على اصطناع الهدوء، فقرارة دواخلهم طافية على مظهرهم الخارجي، وغزارة معرفتهم، وسعة ثقافتهم وتجذرها في الموروث الإنساني، تتبدى في ابتساماتهم الخجولة وحركات أعينهم الدالة على ذكاء متوقد وبداهة متحفزة وحضور شفيف.
حلمي سالم فقيد الثقافة العربية والشعر المصري والأدب الإنساني، المتجذر في تربة
مصر وتاريخها، والمنغرس في جغرافيا المنطقة العربية وهمومها، حامل إرث الأهرامات
وأسرار التخبيط والهندسة، والمطلع على آخر منجزات الثقافة الإنسانية والتجربة
الشعرية في العالم، صاحب قصيدة (ارفع رأسك) المتضمنة في آخر ديوان له، الحاصل على
جائزة أفضل ديوان شعر فصحى لعام 2011 في مسابقة معرض القاهرة الدولي للكتاب.
اليوم.. يترجل عن عرش الشعر فارس من حملة الكلمة الفنية الصادقة الجريئة، التي لا
تعرف المهادنة أو التخاذل. حلمي سالم الإنسان والمفكر ورجل السياسة والناقد والصحفي
والمشبع ثقة بالمستقبل، وبقدرة الإنسان العربي على المواجهة والانتصار، يترجل صاحب
الابتسامة الدائمة والنزق الملازم لها، المعروف بحماسته لمعتقداته وأفكاره وتسامحه
مع الآخرين مع إيمانه أن طريق التغيير هو المغايرة والاختلاف.
حلمي سالم الذي كتب قصيدة الشطرين، ثم قصيدة التفعيلة، وكان من رواد قصيدة النثر،
آمن بتعدد الأشكال وتجاورها، لا بل ذهب أبعد من ذلك داعياً إلى التحاور بديلاً عن
التجاور، التجاور الخلاق لثقته بأن الشكل ليس حاملاً للرؤية بل متماهياً فيها. حاول
المزاوجة بين الشعري والسياسي، بين اليوم العابر والدائم الخالد، جامعاً بين
الرومنطيقي والواقعي والميتافيزيقي.
حلمي سالم المناضل في أيام دراسته الجامعية، وقائد المظاهرات ضد الردة الساداتية،
والمشارك الفعال في احتجاجات الطلبة عام 1977، ورافع شعار كل الحرية للشعب.
من انتفاضة الخبز وثورة الجياع ضد الطغيان استمد حلمي سالم تسمية مجموعة (إضاءة 77)
التي وقفت ضد الرداءة والابتذال والسطحية في الشعر، وأعادت مع غيرها من الأصوات
الجريئة في مصر وسائر أقطار العرب إلى الشعر العربي رونقه وبهاءه.
حلمي سالم المقاوم في بيروت أثناء حصارها عام 1982، مع مجموعة من خيرة كتاب العرب
وشعرائهم ومثقفيهم الذين تنادَوْا للدفاع عن بيروت والمقاومة الفلسطينية فيها، وهو
القائل:
لوشحّ الخبزُ
سنأكلُ عشبَ حدائقنا ونقاتل
لو شحَّ الماءُ سنشربُ عرق سواعدنا ونواصلْ
لو قلّ الحبرُ سنكتبُ برصاص بنادقنا
أنقى كلماتِ قصائدنا
نضربُ، ونغازلْ
انخرط الراحل في معمعة السياسة والصحافة (الأهالي رئاسة تحرير مجلة أدب ونقد)، وقد بدأت معاركه في السبعينيات، وكانت قصائده سيوفاً من لهب، تلسع وجوه المستبدين. أما أهم مواجهاته النقدية، فكانت قبل خمس سنوات، بعد أن نشرت له مجلة (إبداع) القاهرية، قصيدة (شرفة ليلى مراد) وما تبعها من حملة تكفير واستعداء ضد الشاعر تُوِّجت بإصدار محكمة القضاء الإداري المصرية حكماً يطالب وزارة الثقافة بعدم منح الشاعر حلمي سالم جائزة التفوق، بدعوى إساءته إلى الذات الإلهية.
حلمي سالم من الشعراء الداعين إلى موقف فكري وأيديولوجي ورؤيوي يميز الشاعر عن
غيره، ويحدد فعالياته الفكرية والإبداعية، ويثريها، لكنه دائماً يعبر عن هذا الموقف
في الشعر تعبيراً جمالياً بالدرجة الأولى، لذلك حافظ الراحل على بريق الشعرية
المصرية خلال حقبة مظلمة ثقافياً في التاريخ المصري، هي حقبة الرئيسين السابقين
أنور السادات وحسني مبارك.
التقيت الفقيد الكبير في مهرجان الشعر العربي في مدينة الرقة، وكان ضمن الوفد
المصري، وقد ألقى مجموعة من القصائد على أكثر من منصة وفي أكثر من أمسية تباين فيها
مستوى التلقي. لقيت قصائده استقبالاً وحماسة من الحضور، لعب إلقاؤه الجميل ووقفاته
وحركاته، وعنايته الواضحة في انتقاء المفردات وحرصه على الإيقاع والتناسق بينها
دوراً حاسماً في التأثير على مشاعر الحضور، الذي بادله حماسة الإنشاد باستجابة
التلقي، وبذلك توحد الشاعر مع جمهوره، وانهدمت الهوة بين منصة الشعر، حيث يرتفع
الشاعر مفسحاً المجال لمتلقيه بملاقاته، والارتفاع به إلى سمو القصيدة وإدراك
أسرارها الجمالية، محققاً بذلك الوحدة بين المنشد والمتلقي.
حلمي سالم قامة كبيرة متنوعة العطاءات متعددة الصداقات، غنية التجارب، ممعنة في
التجريب، حوارية الفكر، متعددة المرجعيات، متسامحة الطبع، واثقة من قدرتها على
الانتصار.
للشاعر الراحل أكثر من 18 مجموعة شعرية، أبرزها: (الأبيض المتوسط، سيرة بيروت،
الثناء على الضعف، مدائح جلطة المخ.. وغيرها) ومن أهم آثاره الفكرية والنقدية:
(الثقافة تحت الحصار، الوتر والعازفون، العائش في الحقيقة، الحداثة أخت التسامح،
هيا إلى الأدب).
مع إحساسنا الباهظ بالفاجعة، كلنا ثقة بأن صرخة حلمي سالم الشجاعة ومواقفه الجريئة
الصادقة، المفعمة بالبراءة والثقة بالمستقبل، والزمن المكثف الذي عاشه، فهو لم يكن
(ميتاً متقاعداً، يقضي إجازته القصيرة في الحياة)، تلك المآثر لن تقوى على طيها
عاديات الزمن، فتجربة الشاعر النضالية، وما تركه من آثار هزمت الموت الذي جبن أمام
مسلة المصري وملحمة السومري وأغنية العامل ولوحة الفنان. وكما قال الراحل محمود
درويش:
هزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعها
هزمَتْكَ يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلّة المصري، مقبرة الفراعنة
وأفلت من كمائنكَ الخلود
فاصنع بنا، واصنعْ بنفسك ما تريدُ
جذبتني كلماتك التي حتما ماكانت ستجذبني للمقصود منه"الشاعر حلمي سالم" قرأت المقالة بشغف كبير ..كلمات منتقاة بأسلوب أكثر من رائع...كم هو جميل أن نشارك الناس اعجابنا بشخص هو أهل لهذا الاعجاب ..ونمضي هذا الوقت في حياكة تراكيب وتعابير تليق بروووعة مانحن معجبوون به...ولقد شغفتني لأبحث عن هذا الشاعر وأقرأ كتاباته..