كل كاتب في مختلف أنواع الكتابة يختار الوقت المحدد للكتابة. ويتحول هذا الشكل إلى عادة تترسخ مع الزمن ولا يقدر الكاتب أن يتخلَّى عنها.
ويتكرر السؤال كثيراً في الحوارات التي يجريها الصحفيون مع الكتاب: ما هو الوقت المفضل للكتابة عندك؟ وما هي الطقوس التي تمارسها؟
إن متابعة حياة الكُتاب من خلال مذكراتهم وسيرهم الذاتية، يكشف للقارئ أن فترة الكتابة تتباين في الزمن وفي استخدام الأدوات الأخرى. فكل كاتب له طقسه الخاص به. فأنا على سبيل المثال أحب الكتابة في جو هادئ، وسكون مريح للذهن. ولا أقدر على الاستماع إلى المذياع أو التلفاز أثناء الكتابة والقراءة. أبدأ الكتابة بإشعال السيجارة وإلى جانبي فنجان القهوة أو الشاي- كان هذا قبل أن أترك التدخين-، وأحب الكتابة مبكراً أو في الليل المتأخر. وأن يكون مكتبي نظيفاً خالياً من الصحف والكتب والأوراق غير اللازمة. وليس كالأديب حسن حميد الذي لا يشعر بالسعادة والألفة مع القلم والأوراق، إلاَّ حين يكون على مكتبه أكوام المقالات والأوراق والكتب والمجلات. وهناك كُتاب لا وقت محدداً عندهم للكتابة. ما إن تنقر أنامل الإبداع الباب، حتى يحملوا سلاحهم الفردي ويطلقوا قذائف مدادهم على الدريئات البيضاء.
ومنذ أيام أنهيت قراءة كتاب بعنوان (الوردة البيضاء) للكاتب الروسي(ك. بوستوفسكي)، يعود إلى منتصف القرن الماضي. أوراقه صفراء كالنبيذ المخمّر، أعارني إياه الصديق الأديب سهيل الشعار.
وجاء في مقالة بعنوان (بعض لمحات عن الكتابة)، الطقوس التي يمارسها الكتاب عند الكتابة. وكتب بوشكين لأحد أصدقائه، قال:
ها هو ذا الخريف قادم إنه فصلي المحبب، إذ أكون في أبهج أوقاتي وأشدّ رغبة في الكتابة:
وفي الخريف كتب بوشكين شعراً رائع الجمال عن قوة الابتكار في الكتابة.
يستيقظ الشِّعر الآن في ذهني
وتتفتح نفسي بنغمة غنائية،
فأسمع صوتها المتهدج، وهي تناضل كالنائمة
لتزوّد نفسها أخيراً بالتعبير الكامل الطليق -
ثمَّ تأتيني ضيوف أطيافي تنساب في تيار،
إنها أصدقاء قدماء، وأطفال أحلامي.
وتبحث أصابعي عن قلم، ويجري القلم فوق القرطاس،
وما هي إلاَّ دقيقة- حتى تتدفق الأشعار بغير عائق..
ومن عادات ليف تولستوي أن يكتب في الصباح فقط. ويرى أن هناك ناقداً يسكن في كل كاتب، وينشط ذلك الناقد في الصباح وينام في المساء. وعندئذ لا يكون أمام الكاتب إلاَّ أن يحكم على ما يكتبه بنفسه. واستشهد تولستوي على قوله هذا، بأن جان جاك روسو، وتشارلز ديكنز، كانا يكتبان في الصباح، بينما تعوّد دوستويفسكي وبايرون الكتابة ليلاً. وبذلك أخطأا في حق موهبتهما.
قال دستويفسكي: يضطرني الفقر إلى الإسراع بكتابة شيء أعيش منه يكون ذا تأثير سيئ على مؤلفاتي.
وكان تشيكوف في شبابه يكتب على حافة النافذة في شقة مزدحمة بالسكان بموسكو. أما شيلر فلا يكتب إلاَّ بعد أن يشرب نصف زجاجة من الشمبانيا، ويضع قدميه في طشت من المياه الباردة. ويكتب ليرمونتوف أشعاره في أي شيء يقع عليه. وليس من الضروري أن يكون ورقاً. ولم يكن ألكسي تولستوي يجلس للكتابة إلاَّ بعد أن يكون على مكتبه رزمة من الورق الجيد. ولم يكتب الشاعر الفرنسي(برانجيه) أشعاره إلاَّ في المقاهي الرخيصة، كما كان الكاتب إيليا إهرنبورغ يرى أن جو المقاهي ملائم للكتابة.
ويحب هانز كريستيان ديكنز، أن يفكّر في حكاياته الخرافية وسط الغابات. وكان ثاقب البصر، يكفي أن يرى بقية جذع شجرة يكسوها الطحلب، أو نملة صغيرة تحمل فوق ظهرها ذبابة ذات أجنحة شفافة خضراء، كأنها لصّ شجاع يخطف أميرة حسناء، فتحفزه على الكتابة في سيل من الأفكار المبتكرة.. ويقول: يمكنني الكتابة بقلم سيَّال، عندما أتطلَّع إلى شيء مبهج قريب منّي، حتى ولو لم يكن غير رحلة صيد في أحد مجاري المياه بغابة بعيدة، في ظلّ أشجار الصفصاف الباكية.
وهناك طقوس للكتابة يمكن أن تتشابه، وإن تعددت البلدان والأمكنة والجغرافية.. واختلفت أشكال الأقلام وأنواعها ولون الأوراق..!