إلى والدي في ذكراه الخامسة ....
لا أعرف كيف أنسى حلمي الذي راودني بعد رحيلك بأيام … كنت أراك تحت شجرة في بيتنا
تناديني والوقت ليل .. وكأنَّ صوتك إلى الآن مازال ماثلاً بذاكرتي … « خالد غطيني
جيداً » لم يطل الحلم كثيراً .. أيام قليلة ومضى … وكان الحلم يتحول فجأة إلى دمع
يملأ كل تفاصيلي …
كنت ولا زلت انتظر عودتك ليس إيماناً دينياً … كنت
أريد عودتك بأي شكل قضاءً على ترقبي وارتباطي بمواعيد تشبه مواعيد الاحتضار .. أردت
أن تعود لأهجر بعض الدمع … ذرات الجسد ما عادت تترابط .. وهذا النبض أحمق .. و وجعي
متكئٌ على جدار انكسار .
كتبت لك فيما مضى إني أفتقدك ولكني اليوم أكثر افتقاداً وفقداناً وألماً … يقولون
يجب أن تنسى مضت أربع سنوات .. ولكني أعرف أنه لم يمض سوى البارحة والنسيان ولم يمض
سوى بكاء اللحظة ..
أتذكر يا سيدي عندما كنت أعود متأخراً ملتفاً بالليل والهمس ،، متخفياً بالظلام ،،
كنت ألمحك طيفاً على طرف شباك قريب تنتظر .. تحدث نفسك عندما تراني .. كل الطيور
عادت والأناشيد تجمعت .. لماذا تأخرت.. لم يبق في الطرقات إلا مشرد … دوماً لم يكن
لدي الجواب ..
أترك تساؤلاتك ،، وأرمي جسدي منهكاً .. الظلال تكسوني .. وابتسامتك تلاحق تعجلي
وجنوني .. أتذكر كم جئتك بأحلامي .. وتركت لديك بعض أيامي .. بعض عمري الذي انقضى
.. حقيقتي رأيتها عاريةً أمام حنانك ، كنت أراها في كلماتك التي ليس فيها “رتوش” ..
إلا خوفك علي ، إلا حنانك وهو ينسكب لحظة إثر لحظة حول كل ما يحيط بي ..
أتذكر يديك اسطورة الحنين والذكريات بحيرة بلا ملامح يقلب الريح الأوراق على صفحتها
فتنبت على سطحها شجيرات حنان ..
مضى الوقت لأتذكر وأنا القادم من مدينة ليست لنا … على مدينة تضم جسدك الطاهر
المتعب …مسرعاً ;مثل “البولمان” الذي أستقلُّه
ولكني كنت أشعر أن الثانية تمر عاماً كاملاً .. عندما حدثني أخي هاتفياً .. قال لا
تقلق .. الأمور بخير .. وكأنه كان يقول اقلق ..الأمور تسوء .. في لحظة قررت ترك
عملي في دمشق وآتي .. وكأني أسابق وقتاً لا أعرف ما الذي يخبئه .. حتى الطريق
ومعالمه المعروفة لي والذي أحفظه منذ عشر سنوات باتت ملامحه غريبة .. لم يكن يشغل
بالي سوى الوقت … أسابق وجعي ، وأحبس دمعي … ولكنه يفاجئني عندما أنظر الى صورتي
المنعكسة على زجاج النافذة جنبي وأنا أرقب الطريق الذي لا ينتهي ..
وصلت أخيراً.. انتصرت على كل الدقائق التي استباحت أعصابي وصبري ,, ركضت كنت أبكي
.. لا أدري من لمني عندما وقعت .. كنت أسأل عنك .. أخبروني إنك في العناية المشددة
.. هل علي أن أنتظر .. كان شيئاً في داخلي يقول لا .. قلت لهم سأدخل ..
لا أدري كم من الوقت مضى لأجد نفسي أمامك ..كنت مغمض العينين ويضعون صمام الأوكسجين
على فمك ..وأنابيب كثيرة تتشابك مع جسدك .. وفي اللحظة التالية تحس بوجودي .. تفتح
العينين الحبيبتين تنظر إلي مبتسماً ..مبتسماً نعم لا أنسى .. تدور بي الغرفة
للحظات لأرى نفس العينين تبسمان لي عندما كنت أخطأ … عندما كنت أرفع صوتي ..عندما
كنت طفلاً لا زلت .. أركض لأرتمي بأحضانك …
عندما
كنت أحاول تقبيل يديك الأسطورة في صباح العيد فتسحبها بسرعة فتلامس شفتاي
الهواء .. تربت على كتفي وتعانقني فأغوص بعطرك المقدس لحظات لأسمع منك كل عام وأنت
بخير …
أعرف كم كنت تحبني ذاك الحب الذي كان ينفجر حناناً وألقاً ومساندةً .. كنت تقول
دائماً إني البكر ارتباطك الأول بالحياة ..
بكيت قبل أشهر قليلة بكاءً طويلاً ..لأنك قلت لي إذا حدث لي شيء أعرف إنك ستكون
موجوداً سأغمض عيني مطمئناً .. كنا نجلس قبالة بعض .. كما عودتني دائماً .. أن
تعاملني كند ..ولكن هذا الند سقط في لحظة أرضاً في بحر من دموعه لممتني وابتسمت
ابتسامة كهذه ..
أمد يدي لأمسك يدك .. فتسبقني يداك لتلغي كل ما قالوا إنك في وضع حرج ،، تمسك يدي
وتشد عليها ..لم تتكلم بسبب صمام أوكسجين الموضوع على فمك .. لكنك عندما مسكت يدي
ونظرت إلي وابتسمت.. عرفت كل ما أردت أن تقوله ..
تنسحب اليد الحبيبة رويداً رويداً وتغمض عينيك مبتسماً .. ويأمرني طبيبٌ بالخروج ..
أعرف أنك انتظرتني .. ولكني لم أعرف أنك سترحل بعدها سريعاً .. دقائق .. وأعرف أني
صرت لوحدي ..
في ذكراك الرابعة ما زلت أفتقدك .. وما تزال أحلامي يغطيها قبرك ويكسوها تراب رحيلك
… لا تزال تمتماتك تفاجئني بين الفنية والأخرى
.. وما زلت أؤجل أحلامي ودمعي لحين ..
مسّتني هذه العواطف النبيلة التي حلّقت بين الأرض وبين السماء, بين الدموع وبين زخّات المطر, بين غابة من الأشجار وبين صحراء الصدى, مسّتني هذه الأغنية الحزينة لم أغني مثلها من قبل ولا أعرف كيف تُغَنّى ... لكني كأم أتمنى أن يكون لي مكانة بقلوب أولادي كما مكانة والدك الحنون ,رحمه الله, وأطال بعمرك .
العمر الك، كل سنة. رحمة الله عليه