مراراً حاول فرض أي حقيقة من الحقائق الكثيرة التي صنعها أو حتى ترسيخ إحداها في العقول ورغم أنّه متأكد من صحتها كما كان ولا زال يدّعي إلّا أنه أبداً كان يفشل بذلك واعتاد بعد كل فشلٍ أن يستدعي خبراءه ومستشاريه يهددهم تارة ويغريهم تارة أخرى ليجدوا له حلاً ورغم أنهم نصحوه مرة بزيادة التمويل ومرة بتغيير الأسلوب ومرة بتغيير الدراسة لكنهم في كل المرات كانوا يفشلون
وأخيراً نصحه أحدهم أن يستشير من هو متعارف عليه بين من يدعون أنهم يعلمون كل شيء ويستطيعون صناعة كل شيء باسم مدّعي الحكمة فأرسل في طلبه وجاءه الرد أن الحكمة تؤتى ولا تأتي فمن أرادها عليه أن يذهب إليها فقرر الذهاب معزياً نفسه بادعاء أن في ذلك بعض الحقيقة التي أمضى عمره في صناعتها ولم ينجح بذلك حتى الآن كما يكره أن يقول ولم ينسَ أن يعد من حوله سرّاً أنه في يوم من الأيام بعد أن ينتهي من مشكلته المستعصية هذه في فرض حقائقه سيفكر في صناعة حقيقة جديدة يستطيع بها أن يجبر حتى الحكمة على أن تأتي إليه عندما يطلبها
ذهب إلى تلك الدار القديمة توقف أمام لوحتها المهترئة هز رأسه باستهجان وهو يقرأ ما هو مكتوب عليها "دار الحكمة " بخط مازال مفهوماً رغم أن الزمن قد ترك أثاره عليها ودخل من الباب الذي كان مفتوحاً دخل وحيداً كما كانت تشترط الورقة التي أُحضرت له عندما قيل له أن الحكمة تؤتى ولا تأتي ورغم أن كل التعليمات كانت موضحة في ذات الورقة إلا أنه تجاهل ذلك وطلب مقابلة المسؤول عن الدار باعتبار أنّه من هو ويحق له ترقية وتغيير وكف يد المسؤول الأكبر عن أي مكان يذهب إليه فكيف بمقابلته وعندما طُلب منه بأدب تعبئة استمارة تحتوي على معلومات عنه إضافة إلى نوع الخدمة التي يمكن للدار تقديمها له أبى أولاً بحجة أنه لطالما هزأ بأوامر المسؤولين الأعلى والأهم شأنا من مسؤول عن دار بالية كهذه و لا وقت لديه لتضيعيه في هذه الأمور والتفاصيل الصغيرة وعندما أّفّهم أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن له بها أن يستفيد من خدمات الدار وأنّ المسؤول عن الدار قد يكون في أي مكان ولكنّه ليس في الدار أمسك قلمه الذهبي الذي أحضر له خصيصاً من ألمانيا ودُفع ثمنه أكثر من ثلاثمائة ألف ليرة وهو أغلى بخمسون ألف ليرة فقط من كرسي الحمام الذي أحضر خصيصاً له أيضاً من ايطاليا ورغم أنه يستخدم كرسي الحمام يومياً لكنه لا يستخدم هذا القلم إلا في الكلمات والتواقيع الخاصة
ملأ الاستمارة المطلوبة و في حقل نوع الخدمة المطلوبة كتب فرض الحقيقة وأراد تسليم الاستمارة إلى الشخص الوحيد الذي رآه منذ أن دخل الدار فطلب منه الرجل أن يقوم بوضع الاستمارة في آلة تشبه آلة التصوير وأخبره أنّه يمكنه الانتظار في الحديقة الجميلة المليئة بأنواع الورود المختلفة بعد أن قدّم له كأس من الشراب يشبه العصير وطبعاً رفض أن يتذوقه لعدم تأكده من محتواه قرر الانتظار ولم يدم انتظاره طويلاً فقد أحضر له ذات الشخص ورقة مطبوع عليها " هل أنت ذاته بين سطورها ؟ "فكر في أن يستوضح منه ولكنه تراجع وهو يقول لنفسه ليس هذا الرجل إلا موظف استقبال وهو لا يعرف عن الموضوع شيئاً فخرج من الدار و اتصل بمديرة مكتبه وقال لها أريد كل المدراء والخبراء والمستشارين في مكتبي حالاً وأنهى الاتصال قبل حتى أن يسمع إجابتهاوصل بعد حوالي نصف ساعة وهي أقل من المدة اللازمة لقطع المسافة بين دار الحكمة وبين مكتبه لموكب كبير مثل موكبه حتى بعد فتح كل الطرقات وتجاوز كل الإشارات الضوئية
وطبعاً وجد كل المدراء والخبراء والمستشارين ولم يظهر عليهم بعد أي آثار لمللٍ أو انتظار فهم معتادين على انتظاره لساعات طويلة ويروي أحدهم سراً أنّه طلبهم مرة لاجتماع من المكان الذي كان مسافراً إليه ولم يصل إلا في منتصف الليل وقد كان كل من طلبه للاجتماع حاضراً مثل الألف كما يحلو له أن يصفهم وهو يخبر سراً كل من رآه بهذا السر الذي يعتقد أنّه مازال سراً دخل بابتسامته المقطبة وعنجهيته المعهودة وطلب من مديرة مكتبه تصوير الورقة على عدد الحاضرين وتوزيعها عليهم وقال لهم فكروا بتعمق بهذا الكلام وأريد جواباً خلال دقيقة ماذا قصد ابن الستين كلب مدعي الحكمة هذا بهذه العبارة الغبية
وعندما انبرى المتسلق الذي كان معارضاً لفكرة استشارة مدعي الحكمة وقال ألم أقل لكم أننا لن نستفيد شيئاً من استشارته رد عليه بحدة لا أريد ثرثرة وأكل هوى خارج الموضوع من لديه تفسير للعبارة فلينطق وإلا فليخرسفبحث المتسلق عن ذنبه ليطويه وعندما لم يجده استنتج أن عليه طوي لسانه فانكتموبعد أخذٍ ورد وهرج ومرج وصد ورد اختتم الاجتماع بعد أن توصل المجتمعون إلى ضرورة هدم دار الحكمة فينتهي بذاك مبرر البحث عن معنى تلك العبارة المشؤمة وقد تم فعلاً وضع الدراسات اللازمة لبناء منتجع جميل لصانع الحقيقة يسترخي فيه من عناء مسؤولياته ويبحث عن الطريقة المناسبة لفرض حقائقه لاسيما بعد أن يكون قد خطى خطوته الأولى نحو تحقيق هدفه بالقضاء على الحكمة يتبع في صانع الحلم وصانع الجبن وصانع الأخوة . . .