لست ممن يتقنون فن كتابة القصة ..لها أصولها وجذورها ..لها مرآتها العاكسة..التي لايتمكن منها إلا الأدباء..ولكن لمعرفتي بعناصر الحدث ..قررت نشر خيوطها ..علها تحتل مكانا لها بين العبر المعبرة ..عن أمر ما..نتمنى دائما أن لانفقد أسسه في البناء الاجتماعي لدينا..خاصة وأن المواضيع الاجتماعية المستخلصة من مسيرة الحياة كثيرة هي.. تضعنا دائما وأبدا في مواجهة حقيقية مع أنفسنا وضمائرنا ..عبر تبدلات الزمن القادم إلينا.. بتسارع فلكي كبير شئنا أم أبينا..فعذرا من الأدباء..
أنهكه التعب تاركا عليه بصمات العمر الطويل..يتسلق سلم المنزل درجة درجة .. لاهثا دافعا من صدره عبء العناء ...شيخوخة أثقلتها عوادي الزمن.. كهولة ناءت بحملها.. فارتضت لنفسها عناء اللقاء ..نعم انه العناء المحبب لقلبه دائما.. و منذ زمن بعيد ..عندما كان الابن المسؤول صغيرا تتناقله يداه ..قرر زيارته في المدينة .. في مكان عمله المميز بسلطة كبيرة طالما حلم بها.. وعمل له من أجلها الكثير.. مقدما له حصيلة شقاء وتعب وعرق طالما تمتع به .. ليدخله المدارس الكبيرة محققا له التفوق والنجاح ..نعم انه ابنه الغالي على قلبه .. نصر..أسماه كي تتحقق أحلامه بنصره على عاديات الزمن ..عبر شيخوخة غدت ضعيفة بما تحمله من رواسب الأيام..قريبة من مفترق الحياة ..
قرع الجرس ..فتح الباب ..ظهرت زوجة ابنه..كاد أن ينهار وهو المتعب من عناء مشوار طويل.. انتقل خلاله من وسيلة نقل إلى أخرى ..نصر في العمل وهو خارج المدينة بمهمة رسمية ..الأولاد في المدرسة ..عندي أم غسان زوجة مدير عام ..هكذا كان الاستقبال من زوجة الابن ..كاد أن ينهار من شدة التعب ومن ثم حرارة اللقاء.... دفع بسلة الغذاء الريفي الذي جمعه لأبنه وأحفاده بعد جهد وعناء ..قائلا لأبنه الأصغر والذي يعيش معه في القرية الصغيرة هذا لأخيك وعائلته ..في المدينة لايوجد مثل هذا الطعام ..أخيك نصر يحب هذه الأنواع ..دفع بالسلة مرتجف اليدين ..وبصوت متقطع اقترب فيه من البكاء قال لها.. سلمي لي كثيرا على نصر والأبناء ..شكرا لم تقلها.. بل أخذها التفكير بعيدا..ماذا ستفعل بهذا الطعام ..انه يحتاج للكثير من العمل والعناء..أغلقت الباب وانعكس السير لديه ..
اهتزت جميع مفاصله وهو ابن السبعين ..حملته قدماه إلى الطابق الثاني.. فشعر بعطش شديد..ومن شدة التعب الممزوج بألم حاد.. كاد أن يغمى عليه ..قرع جرس الجوار ..فتح الباب وكان الكلام دخليك أريد ماء ..عرفه الجار وتعرف إليه .. كيف لايعرفه وهو الذي تحدث عن عطاءه الكبير للقريب والبعيد.. شاهده في حفل زواج ابنه نصر في القرية ..حيث كان من المدعوين ..قال له عمي أبا نصر تفضل ..وحمله إلى الداخل ..وأجلسه على الأريكة المريحة وناوله الماء المثلج.. وأردفه بعصير البرتقال الطازج ..استفسر منه ..أجابه لم أجد أحدا في منزل ابني ..سلم لي عليه وقل له إني مشتاق جدا إليه ..لا أرغب أن أغادر الحياة قبل أن اقبل وجنتيه ..انهارت دمعتان خلسة من مقلتيه..لم يتمكن من التحكم بهما ..أدرك خليل بإحساسه الذكي ..مانال العم أبو نصر من ضيم اللقاء ..وهو العالم بأن زوجته الآن في منزل نصر.. تتناول القهوة بعد أن طلبتها زوجة نصر للقاء.. خليل أعلم نصر وهو صديقه المقرب إليه.. خلسة عما حدث لوالده..
أدرك الوالد بخبرة الحياة أن أمرا ما.قام به خليل فاعتذر وقرر الانطلاق.. مدعيا أن الوقت قد قارب على الانتهاء ..فباص الضيعة الوحيد سيغادر الساعة الثانية والنصف ظهرا..أي بعد نصف ساعة من توقيت البقاء..متناسيا أن خليل يعلم أن موعد الباص ..الساعة الثالثة والنصف ظهرا بعد انتهاء الدوام ..طريق الباص ..طريق ضيعة خليل أيضا ..بعد الإلحاح الشديد على البقاء قرر الوالد السفر.. شاكرا لخليل حسن الضيافة واللقاء ..طالبا منه بمحبة العم الصادق ..أن يزوره في القرية ليرد له جميل العطاء ..أصر خليل على مرافقته إلى الكراج ..لكنه أدرك أن العم أبو نصر لم يعد يحتمل دين اللقاء ..أوقف سيارة تاكسي وطلب منه المشوار.. وهو يعلم أنه سيدفع له أجرا كان قد قرر بينه وبين نفسه أن يقدمه للصغار.. ثمن قطع حلوى يشتريها لهم من سمان البناية ..بعد أن يأخذهم في مشوار بسيط ..يقدم لهم من خلاله بعض عطاء الجد للأحفاد..وصل الكراج وجلس منتظرا قدوم الباص ..بعد مضي بعض الوقت صعد إلى الباص..
وجلس إلى جواره صديقه أبو فؤاد ..الذي كان في زيارة لولده.. العامل في أبنية الأسمنت حيث يتقن عمارة البلوك ..حدثه أبو فؤاد الكثير عن كرم العطاء من ابنه ..وخص بالشكر زوجته على عنايتها الشديدة.. بما يريد ويرغب من أصناف الطعام ..وهو العالم بالحال .. وعندما هم أبو نصر بالكلام لشكر ولده وزوجته على اللقاء .. توقف الباص ..بعد أن اعترض طريقه شرطي المرور طالبا منه التوقف ..ترجل من السيارة الفخمة ابنه نصر.. والدموع تنهال بغزارة على وجنتيه ..مصرة على إلغاء كل ماحدث لوالده بمحبة ووفاء.. وبصوت جهوري لماع قال .. ..أبا نصر أبي أين أنت .. وتقابلت العيون .. وتلامست الخدود ..وامتزجت الدموع ..أبي سامحني لم أعلم بقدومك الاّ من صديقي خليل الآن ..سامحني أرجوك ..أنت ينبوع العطاء ..قبل أبو نصر ولده ..ولفرحة اللقاء لم يلحظ أحفاده وهم يبكون فرحا .. تصافح الجميع وكان المشهد مؤثرا.. مما دفع بسائق الباص أن يقدم الكاظوظ ضيافة للجميع.. ناسيا أنه أمانة لدكان الضيعة . ..لا لن يزعل أبو ابراهيم مما قام به سائق الباص.. فالجميع يحب أبو نصر وولده نصر ..الذي لم يبخل يوما ..بمد يد العون وتقديم المساعدة لجميع أبناء ضيعته بدون ترتيب أو حساب ..
فريد الياس نسب
في 3\2\2013