محمد منير ، الفنان المصري الصعيدي الجدع ، ذائع الصيت ، مبدع ، لكنه مقلّ، يسعى للحضور من خلال إبداعاته و لا تتبع الأضواء، فنجده يتخير الأفضل دائماً، ولذلك فهو الأفضل من بين النخبة.

منذ أيام ، رفض هذا المبدع عرضا ماليا ضخما من شركة يونيفيرسال العالمية للإنتاج التلفزيوني يصل إلى أربعة ملايين يورو، ومن لا يعرف يونيفيرسال ، وهي كل يوم تطل من شاشاتنا الصغيرة عبر قنوات الأفلام و تتحفنا بأفضل الإنتاجات السينمائية تحت مظلة هوليوود ، و للعلم أن مالك هذه الشركة و مجلس إدارتها هو من الأمريكيين الإسرائيليين يهوديي الديانة.

الشرط الوحيد للشركة العالمية ، هو أن يغني محمد منير أغنيات ألبومه في إسرائيل، وهذا ما رفضه منير و لم يناقش به أصلاً، مع أن المبلغ المطروح مغري لدرجة أن أي فنان ربما سيحتاج ربما لبيع عشرات الألبومات ليصل إليه، خاصة مع الزحمة الفنية الحالية على خط القاهرة بيروت.

في الحقيقة ليس محمد منير وحده الذي رفض عروضاً كهذه ، فمن فترة ليست ببعيدة ، رفض نجوم المنتخب المصري و عرابهم حسن شحاتة عرضا مماثلا من الاتحاد الإسرائيلي، ورفض العديد من الفنانين المصريين أيضا عروض مماثلة.

مع العلم أن الرئيس أنور السادات ، أعلن وقف عملياته العسكرية في حرب أكتوبر سنة 1973م، بهدف التوصل لاتفاقية سلام مع تل أبيب آنذاك ، وفي العام 1978 قبل مولدي بأيام ، وقع السادات اتفاقية السلام في منتجع كامب ديفيد ، والتي اشتملت على أن تعمل الحكومة المصرية جاهدة أن تطبع بين الشعبين الصديقين الإسرائيلي و المصري.

و المتتبع للأحداث ، يرى أن هذه المعاهدة رغم مرور 32 عاما على توقيعها ، استطاعت أن تحقق ما رسمت له بالضبط ، حيث أصبحت مصر معبرا سريعا لإسرائيل لبعض الدول العربية، بل و تميزت مصر جراء هذه المعاهدة بأنها كانت ساعي البريد بين الحكومات الإسرائيلية وبعض العرب، و كتحصيل حاصل استرجعت مصر الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967م على الرغم من الفضائح الكبرى التي ظهرت بعدها و أخرها فضيحة الـ250 أسير مصري اعدموا رميا بالرصاص في ايلات.

إلا أن البند الأهم في هذه المعاهدة و الذي ربما لو تحقق لكان حال العرب (على سوءه) أسوء ما يكون، هذا البند هو التطبيع الثقافي، الذي سعت إسرائيل جاهدة لاجتذاب ممثل مصري معروف أو مطرب مصري أو مسرحية أو مباراة ، فلم يتجاوب معها إلا بعض ضعاف النفوس من عباد الشيكل و صور لينكولن .

هذا الفشل الذريع ، الذي حاولت الحكومات المصرية تلافيه ، كونه مرتبط ارتباطا وثيقا بشروط مهمة تضمنتها المعاهدة ، هذا الفشل الذريع كان مصدره الشعب الرافض لهذه المعاهدة ،نعم فلم أجد مصريا واحدا في مغتربي ممن أعرف من الأصدقاء يقبل بهذه المعاهدة أو يقبل بالتطبيع مع إسرائيل.

 وباستطلاع رأي غير مباشر وقبل كتابتي هذه المقالة ، ظهر لي أن الشعب المصري بكافة شرائحه يرفض التطبيع مع اسرائيل ، مدرسيين جامعيين ، أطباء ، مهندسين ، محاسبين ، موظفين ، عمال بناء ، سائقين ، جميعهم لم يقبل بفكرة التطبيع على أي صعيد مع الإسرائيليين، فهم كانوا أعداء الأمة و سيظلون بهذه الصورة لو وقعت الحكومة مئة معاهدة سلام ،حتى أن بعضهم قال لي بالحرف الواحد (( دي معاهدة الحكومة يا عم سيبك من الشعب ، احنا بتوع الاوتوبيس) .

نعم هي ليست معاهدة الشعب ، هي معاهدة حكومة لحكومة ، معاهدة مصالح سياسية ضيقة و مصالح اقتصادية و مساعدات فتات للحكومة المصرية، هي معاهدة الحفاظ على الكراسي الفخمة ، معاهدة فقط لقاطني الفلل في المهندسين و الزمالك ممن يديرون وزاراتهم من منتجعات طابا و شرم الشيخ، هي معاهدة ضمنت لإسرائيل شراء الغاز المصري بأقل من ربع قيمته العالمية و إعادة تصديره لمصر بأكثر من ثمانية إضعاف ثمنه.

شتان ما بين معاهدة كهذه و حكومة تفاوض المحتل لأكثر من عشرين عاما ترفض التنازل عن شبر ارض ، بل و لأجل شبر الأرض خاضت حرب استنزاف لمدة 82 يوما و أبت إلا يكون السلام إلا عادلا و شاملا يعيد الحقوق كاملة دون انتقاص.

فما معنى أن يرفرف العلم الإسرائيلي على إحدى الفلل المحمية بأضخم نظام حماية في العالم، أين معنى السلام و سفير السلام يقبع في قبو فيلته ينام وتحت مخدته مسدس ليحميه؟

بدون قبول شعبي لا تحظى أي معاهدة سلام بأدنى مستوى من المصداقية ، وهذا ما واجهته معاهدات السلام العربية في كامب ديفيد و وادي عربة و اوسلو، وهذا فعلا ما تواجهه معاهدة السلام المصرية مع إسرائيل ، غطاء حكومي سعيا وراء سيادة و زعامة عربية مزيفة و رفض شعبي تام لهذه المعاهدة ، وبدون هذه المعاهدة ، لكانت مصر زعيمة العرب بلا منازع ، فلا أحد ينكر أن مصر وحدها كانت باستطاعتها أن تجعل تل ابيت إطلالا و مزارا للسياح لو استمرت بضعة أيام في الحرب حينها.

أحببت من خلال مقالتي أن أسلط الضوء على قضية مهمة جدا وهي الرفض العربي للتطبيع مهما طال الزمن أو قصر، فلربما نجوم مصر من فنانين و ممثلين و رياضيين هم المستهدفين ، إلا أنهم بكل تأكيد يمثلون ضميرا عربيا حيا و قلبا عروبيا نقيا، فتحية حارة للشعب المصري ، تحية لمحمد منير و زملاءه ، و لا عزاء لتجار الشيكل و الدولار.