syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
تطوير التعليم والتعلم في مؤسسات التعليم العالي: عندما ندرك أهمية الو ظيفة التعليمية للجامعات...بقلم :أ.د. وائل معلا

تتضمن رسالة كل جامعة ثلاث وظائف أساسية هي: التعليم وبناء القدرات، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع. تتلخص الوظيفة الأولى في قيام الجامعة بنقل المعرفة ونشرها من خلال برامجها التعليمية المتنوعة وعن طريق تزويد الطلاب بمختلف العلوم والمعارف التي تؤهلهم لدخول سوق العمل ودعم برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتتلخص الوظيفة الثانية في قيام الجامعة بدور أساسي في البحث العلمي في مختلف مجالات المعرفة العلمية والتكنولوجية والإنسانية، والعمل على تطويرها. أما الوظيفة الثالثة فهي خدمة المجتمع عن طريق لعب دور تثقيفي إرشادي، والمشاركة في تقديم الخدمات الاجتماعية والتوعية العامـة.


هذه الوظاثف الثلاث غالباً ما لا تعطى نفس القدر من الأهمية. فبعض الجامعات المرموقة في العالم دأبت على إيلاء البحث العلمي الأهمية القصوى على حساب عملية التعليم والتعلم، وذلك لعدّة أسباب أهمها  أن عقود البحث العلمي المبرمة مع الجهات العامة والخاصة تؤمن للجامعة موارد إضافية كبيرة ، و لكون منزلة الجامعة العلمية العالمية مرتبطة بانتاجها البحثي بشكل مباشر، حيث أن معظم المؤشرات التي تعتمد عليها أنظمة تصنيف الجامعات العالمية ترتبط ارتباطا مباشرا بالإنتاج البحثي للمؤسسة.

 

وقد انعكس ذلك على أنظمة تعيين وترقية أعضاء هيئة التدريس فيها والتي باتت تعطي ثقلا كبيرا لإنتاج المرشح البحثي، بينما تعطي أهميه ثانوية لخبراته وإنجازاته التعليمية. الأمر الذي جعل كبار الأساتذة الباحثين الفائزين بجوائز بحثية كبيرة كجائزة نوبل وغيرها يقصرون نشاطهم على البحث العلمي ونادرا ما يشاهدون في قاعات التدريس، معتمدين غالباً على مساعديهم في إلقاء المحاضرات. وهذا أمر له دون شك انعكاسات سلبية على العملية التعليمية.

 

واللافت أن الكثير من الدول عادت لتدرك أهمية الوظيفة التعليمية للجامعات. وهذا ما حدا بالاتحاد الأوروبي لتشكيل  "فريق رفيع المستوى" لتحديث التعليم العالي في أوروبا والارتقاء بأداء مؤسساته التعليمية. وقد أصدر الفريق مؤخراً تقريراً  بعنوان "تحسين نوعية التعليم والتعلم في مؤسسات التعليم العالي الأوروبية"، خلُصَ فيه إلى نتيجة أساسية مفادها أنه في العديد من الجامعات الأوروبية لا يجري التركيز بما فيه الكفاية على عملية التعليم والتعلم مقارنة بالاهتمام الكبير بالبحث العلمي. وقد أوصى التقرير بضرورة  أن يحصل جميع أعضاء هيئة التدريس في مؤسسات التعليم العالي في أوروبا على  شهادة في التأهيل التربوي وذلك بحلول عام 2020.   

 

الفريق الذي ترأسه رئيسة إيرلندا السابقة ماري ماك أليس و يتألف من عدد من الأكاديميين الأوروبيين المتميزين إضافة إلى رئيس شركة مايكروسوفت في أوروبا ، انتهى في تقريره إلى ست عشرة توصية تدعم فيها رأيه  الأساسي وهو أن التدريس مهم بقدر أهمية البحث العلمي، وأن جودة التعليم والتعلم يجب أن تحتل مركز الصدارة على سلم أولويات الجامعات الأوروبية.


وقالت مفوضة شؤون التعليم أندرولا فاسيليو إن التوصيات جاءت في الوقت المناسب وأنها ستبذل كل ما في وسعها لتنفيذها. وأشارت أنه في العديد من مؤسسات التعليم العالي الأوروبية هناك تركيز غير كاف على التدريس مقارنة بالبحث العلمي، على الرغم من أن كلاهما يقع في صلب رسالة التعليم العالي. وهذا يقتضي ضرورة إعادة التوازن.

 

ولعل أهم ما يوصي به التقرير أيضاً أن تضمن السلطات الحكومية المسؤولة عن التعليم العالي وجود إطار مستدام، ممول تمويلا جيدا لدعم جهود مؤسسات التعليم العالي في تحسين جودة التعليم والتعلم. كما ينبغي على كل مؤسسة وضع وتنفيذ استراتيجية لدعم جودة التعليم والتعلم فيها وتحسينها بشكل مستمر، وتكريس المستوى اللازم من الموارد البشرية والمالية لهذه المهمة، ودمج هذه الأولوية في رسالتها الأساسية، بحيث يكون هناك تكافؤ بين التدريس والبحث العلمي.


كذلك يجب أن يعطى التميز في التدريس ثقلاً هاما في آليات تعيين أعضاء هييئة التدريس وترقيتهم، فتقّيم كفاءاتهم التدريسية عند ترشّحِهم للترقية في السلّم الإكاديمي كما يقيّم إنتاجهم العلمي من بحوث علمية وتأليف ونشر.

كل هذا يحتّم تأمين التأهيل المهني اللازم للأساتذة الجامعيين ليمارسوا مهامهم التتعليمية على الوجه الأكمل. وبناء عليه، أوصت المجموعة بضرورة أن يدعم الاتحاد الأوروبي إنشاء أكاديمية أوروبية للتعليم والتعلم مستوحاة من معايير الممارسات الجيدة الواردة في التقرير. وأن تضع مؤسسات التعليم العالي استراتيجيات تدويل شاملة وتعمل على تنفيذها، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من رسالتها ووظائفها.  وسيركز الفريق انتباهه في المرحلة القادمة، وكجزء من مهمته لإيجاد سبل تحسين التعليم العالي في الاتحاد الأوروبي، على كيفية تعظيم أثر أساليب جديدة لتوفير التعليم العالي النوعي مثل المساقات التعليمية  المفتوحة والواسعة النطاق المقدمة عبر الانترنت ، أو MOOCs.


لم يلق هذا التوجّه معارضة من المؤسسات التعليمية، فقد رحّبت رابطة الجامعات الأوروبية (
EUA) الممثلة في مجموعة العمل بالدعوة للتأهيل الإلزامي للأكاديميين، وبضرورة زيادة التركيز على مساعدة الطلاب على تطوير مهاراتهم الريادية والمبتكرة،  وإحداث الأكاديمية الأوروبية للتعليم والتعلم. وشددت على أن التطورات في التعليم والتعلم يجب أن تأخذ بالحسبان احتياجات الفئات المختلفة من المتعلمين بما في ذلك الطلاب المسنين، والتطورات الأخيرة في طرائق توفير التعليم وأثر استخدامها، كالتكنولوجيات الحديثة على سبيل المثال.


لم يكن الاتحاد الأوروبي سباقاً في إدراك أهمية الوظيفة التعليمية للجامعات. فقد سبقته إلى ذلك بعض
جامعات العالم ذات النشاطات البحثية المكثفة التي أدركت منذ فترة ليست بالقريبة أن تقديم برامج تعليمية عالية الجودة لا يقل أهمية عن الإنتاج البحثي للجامعة، مما دعاها لتطبيق أنظمة صارمة لضبط جودة العملية التعليمة فيها. وقد بدأت تشترط لقبول أعضاء هيئة تدريسية للتعيين فيها أن يكونوا حاصلين على شهادة تأهيلية في "تطوير التعليم والتعلم في التعليم العالي"، إضافة للشهادة الاختصاصية المطلوبة. كما أحدثت برامج تعليمية خاصة لتأهيل أعضاء الهيئة التعليمية، وشجّعتهم على اتباع هذه البرامج بوقت جزئي إضافة إلى واجباتهم التدريسية الأخرى. وقد أحدثت  جامعة أوكسفورد برنامجاً على مستوى الدراسات العليا ينتهي بالحصول على دبلوم عالٍ في تطوير التعليم والتعلم في التعليم العالي Postgraduate Diploma in Learning and Teaching in Higher Education.

 

والبرنامج الذي يمتد على مدى عامين بوقت جزئي ويهدف بشكل أساسي لتحسين التعليم وتصميم المساقات التعليمية وبيئة التعلم في جامعة أكسفورد من خلال بناء كادر من القيادات التربوية قادر على تقديم المشورة التربوية والتوجيه داخل الأقسام أو الكليات، وهو موجه لأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة من ذوي الخبرة الذين يرغبون في إثراء فهمهم لآليات التعلّم وإشكالياته، وتحسين ممارساتهم التعليمية الخاصة، وتطوير أفكار لتحسين العملية التعليمية في الجامعة. ويمنح هذا الدبلوم من معهد أكسفورد للتعلم، وهو معتمد من قبل أكاديمية التعليم العالي في بريطانيا، ويتطرق لمواضيع على قدر كبير من الأهمية لأثرها في تطوير التعليم وتحسين التعلّم،  منها آفاق أهداف التعليم العالي، وتعلم الطالب وتطوره، والتغذية الراجعة والتقييم، والتنوع والشمولية، وإعدادات واستراتيجيات التعليم، والتعليم في مجالات محددة، وتصميم المساقات والمناهج التعليمية، وقيادة التغيير التربوي. والجدير بالذكر أن أكثر من 120 أكاديميا في جامعة اكسفورد اتبعوا هذا البرنامج منذ إحداثه وحصلوا على المؤهل المطلوب.

 

لقد سعت جامعة دممشق منذ سنوات لإحداث برنامج تأهيلي مماثل في تطوير التعليم والتعلم في التعليم العالي بالشراكة مع إحدى الجامعات الأجنبية، ليحلّ محل دورات التأهيل البسيطة التي كان لزاماً على أعضاء الهيئة التدريسية اتباعها كشرط من شروط التأصيل. لكن هذا المشروع واجه بعض العقبات القانونية التي أعاقت إحداثه. واليوم بات من الضروري إعادة تفعيله والسعي الجاد لإحداثه لما له من انعكاسات كبيرة على تطوير عملية التعليم والتعلم في الجامعة. ويمكن أن يحدث هذا البرنامج في كلية التربية أو في مركز  مستقل للتميز في التعليم العالي، وهو ماكانت جامعة دمشق تطمج لتحقيقه. ويمكن في مرحلة لاحقة إحداث أكاديمية وطنية لتطوير التعليم والتعلم في مؤسسات التعليم العالي على غرار الأكاديمية الأوروبية المقترحة.

 

لا بد من بذل كل جهد ممكن لدعم وتطوير العملية التعليمية في جامعاتنا. فإعداد أعضاء الهيئة التدريسية وتأهيلهم لتأدية وظيفة الجامعة التعليمية يتيح تأهيل خريجين متمكنين من اختصاصاتهم وقادرين على التواؤم مع متطلبات سوق العمل دائمة التطور، وهو الوظيفة الأساسية التي على الجامعات الاضطلاع بها. إن تطوير العملية التعليمية  في الجامعات لا يتطلب أعضاء هيئة تدريسية متميزبن في حقولهم الاختصاصية فحسب، بل أيضاً متميزين في إعداد وتقديم المحاضرات والدروس العملية، وتصميم المناهج والمساقات التعليمية، وتقويم الطلاب تقويما جيداً يتناسب مع الأهداف التعليمية للمقررات الدرسية، واستخدام التكنولوجيات الحديثة في التعليم، وغيرها. ولتحقيق ذلك لا بد من توفير التأهيل اللازم لهم عن طريق إحداث برامج متخصصة في تطوير التعليم والتعلم في التعليم العالي، أسوة بالجامعات الأجنبية المرموقة. كما لا بد من إيجاد الآليات الكفيلة بتشجيعهم على الالتحاق بهذه البرامج، كتوفير حوافز مادية ووظيفية لمن يتمكن من الحصول على التأهيل المطلوب، وتخصيص جائزة سنوية للتميز في التعليم على غرار ما تفعله العديد من الجامعات في العالم، وتعديل أنظمة الترقية بما يأخذ في الحسبان الأداء التعليمي للمرشح للترقية العلمية، إضافة إلى انتاجه البحثي والعلمي الآخر. 
 

 

2013-07-14
التعليقات
استاذ
2013-07-20 16:16:41
هيهات!!!!
المشكلة ان عددا ليس بالقليل من الاساتذة في جامعاتنا لا يتمتعون لا بالمؤهلات ولا بالمهارات اللازمة لكي يكونو اعضاء هيئة تدريس في الجامعات وفق المعيار العالمي، وهم غير قابلين للتأهيل على الاطلاق، وسيشكلو عنصر مقاوم للتغيير. فهيهات ان نستطيع تطبيق هذه الإجراءات التي طبقتها الجامعات المرموقة في العالم منذ فترة، وحتى بعض الجامعات في المنطقة العربية. 

سوريا
أستاذة جامعية
2013-07-17 15:56:10
المطلوب هو التوازن ما بين الوظائف الثلاث
على الرغم من اهمية ما ذكره الدكتور وائل معلا عن عملية التعليم والتعلم في الجامعات والتي يجب ان تأخذ الأهمية القصوى من بين الوظائف الثلاث للجامعات، فأنا ارى ان المطلوب هو ايجاد توازن ما بين هذه الوظائف. فللبحث العلمي اهميته أيضاً لان سمعة الجامعة ومنزلتها مرتبطة فيه كما ذكر د وائل في مقال سابق. ولخدمة المجتمع أهميتها أيضاً. فالخدمات التي يمكن ان تؤديها الجامعة للمجتمع عديدة وفريدة. والمطلوب هنا هو التوازن، اي لا تكون وظيفة على حساب الاخرى. مع الشكر للدكتور وائل بحثه الممتع. 

سوريا
أستاذة جامعية
2013-07-17 09:37:56
المقدرة التعليمية ومعايير التقييم بين الطلاب
لامس المقال واقع شريحة لا بأس بها من أساتذتنا الذين يفتقرون للمهارات التعليميةوالتربوية اللازمة في التعليم الجامعي. وبرأيي فإنه على الرغم من أن المهاراة أو المقدرة التربوية والتعليمية العالية لا تدخل في معايير الترفيع في نظام التعليم العالي عندنا ولكنها تشكّل العامل الأهم في معايير تقييم الأستاذ لدى الطلاب أنفسهم، وهي حجر الأساس في تقدير مكانة الأستاذ وسمعته. شكراً د. وائل على اهتمامك فبتسليطك الضوء على هذا الجانب أعدت للكثير من الأستاذة القدرين بعضاً من الاعتراف بتميزهم.

سوريا
استاذ جامعي وتربوي
2013-07-15 22:17:10
اتفق مع كاتب المقال
اتفق مع الدكتور وائل معلا بأن التعليم والتعلم هي الوظيفة الأهم للجامعات من بين الوظائف الثلاث التي ذكرها. ولا بد من إعطائها الأهمية القصوى الجديرة بها. فإعداد كوادر مؤهلة إعدادا جيدا ومتوائم مع متطلبات سوق العمل ليس بالأمر السهل ويتطلب منا مناهج تعليمية متطورة، وأساتذة مؤهلين جيدا ليس في اختصاصاتهم فحسب، وإنما أيضاً بالنظريات التعليمية الحديثة، وآليات ضمان الجودة، وطرائق التقويم المناسبة وغيرها. وكل ذلك لا يأتي الا من خلال التدريب والتأهيل المستمر. مع الشكر الجزيل لكاتب المقال

سوريا
أستاذ جامعي
2013-07-15 21:53:25
برسم التعليم العالي
ما ورد في مقال الدكتور وائل معلا من معلومات وآراء هامة يجب أن يوضع برسم مسؤولي التعليم العالي. معايير الترفيع لم تأخذ يوما بالاعتبار مقدرة المدرس التربوية والتعليمية وهذا خطأ فادح جعل عملية التعليم تتراجع في جامعاتنا. التدريس في الجامعات الخاصة شتت أيضاً الأساتذة وجعلهم يهملون واجباتهم تجاه طلابهم.

سوريا
مهتمة
2013-07-15 21:49:31
أسس التطوير
كل الشكر للأستاذ الدكتور وائل معلا على مقاله.إيلاء أهمية خاصة للمهارات التعليمية في تقييم الأساتذة الجامعيين هو دون شك أحد أهم أسس التطوير الجامعي. فالبحث العلمي على أهميته لا يعادل أهميةالتعليم والتعلّم.فما فائدة الباحث إن كان عاجزاً عن نقل معارفه إلى طلابه. وما أكثر الأساتذة الذين ينفرون الطالب من المقرر، لا بل من الإختصاص كله.

سوريا
طالب دراسات عليا
2013-07-15 10:26:01
؟!
مما لاشك فيه يا سيدي بأن أنصار هذه الخطوة الرائعة في تطبيقنا لمعايير التأهيل التربوي في " تطوير التعليم والتعلم في التعليم العالي " على أعضاء الهيئة التدريسية , سيحاربون وبشدة من قبل الكثير من القائمين على إدارة منظومة التعليم العالي , شأنه شأن أي مشروع قرار يخدم هذا البلد بشكل حقيقي ! , مع العلم أن قسم كبير من (هؤلاء) لا زال إلى اليوم لا يحمل شهادة في محو الأمية في علوم الحاسوب ICDL ! فما بالك إذا ما طلبت منهم أكثر من ذلك !؟

سوريا
استاذ جامعي
2013-07-15 07:04:53
مقال ممتع ولكن!!
مقال ممتع للدكتور وائل معلا ولكن الحال في جامعاتنا يختلف عنه في الجامعات الاوروبية المرموقة. فأساتذة جامعاتنا مشغولين عن العملية التعليمية ليس لانهماكهم بالبحث العلمي، وانما بأمور اخرى كالعمل المهني والتدريس بالجامعات الخاصة والعمل السياسي وما شابه. اتفق جداً مع الدكتور وائل بأن عملية التعليم و التعلم يجب ان يكون لها الأولوية وهذا ما يجب ان تنظمه وتضمنه جامعاتنا. مع الشكر والتقدير لكاتب النقال.

سوريا