جلستُ كعادتي في ذلكَ المكانِ أُحي فيه ذاكرتي معَ قلوبِ طيورِ الكنارِ التي كانتْ تغردُ دونَ توقفٍ لتضيءَ لي أحلامَ صباحي و أعزفُ على ألحانها همساتِ مسائي، جالسٌ أمامَ النهرِ روحٌ تسكن داخلي تسبحُ في أعماقه إلى حيثُ التاريخُ تُحي أياماً خالدةً في هذا المكان .
لا أنسى حينَ خَاطبتُهَا ذاتَ مرةٍ نَبراتُكِ كالنسيمِ الرطبِ لكنها تُشعلُ روحي ، إبتسامتكِ تُورق بالحبِ و الأملِ و عيناكِ مدينةٌ مسحورةٌ تُبهرني فيها الأحلامُ و الأشواق ، كانتْ كُلما تَسمعُ تلكَ الكلماتِ الرقيقةِ المُتَدفقةِ من روحِ العاشقِ تبتسمُ ابتسامةَ الحياء. أذكرُ أنها قامتْ ذاتَ مرةٍ بِطُولِها الفارعِ و شعرها المُجَدَلِ بالذهبِ و الحريرِ لتقولَ لي حينُ أكونَ معكَ تُثْلِجُ أطرافي و تبكي أغنياتي و يرجفُ قلبي لِعَصفورٍ جريحٍ حدثني دائماً عنِ الحبِ و الأحلامِ و الورودِ الجميلة ، املأْ قلبي بروعةِ المستقبلِ حتى لو كنتَ تَنوي هُجراني يا حياتي الأبدية .
على هذا المرجِ الأخضر و تحتَ ضوءِ القمر كُنْتُ أُقَلِبُ ناظرَيّ دائماً فأنا هنا قابلتُها و هنا شاهدتُها ، و هناكَ نعم هناك على جسدِ تلكَ الشجرةِ المتهالكةِ و المُتَمَاثلةِ للسقوطِ إخْتَبَئتْ و بَدأتُ أبحثُ عنها و حين اقتربتُ من الشجرةِ عَلا صوتُ ضِحكتِها الممزوجةِ بنكهةٍ منَ الخجلِ أذكرُ جيداً كيف هَربتْ و كيفَ كُنتُ أَركضُ خلفها ليُسقطها حجر صغير كان يختبئُ بين الأعشاب الخضراء لِتَسْقُطَ على الأرض و ينهي لعبةَ الاختباءِِ التي كانتْ تَعشقُها دائماً .
كنتُ دائماً أَسأَلها بماذا تفكرينَ و أنا أبحثُ عنكِ ؟ فتجيبني و حمراءُ خدودها البيضاء يعلو و أُنوثتُها الرقيقةُ تقف أمامي ككلماتٍ موسيقيةٍ تعزفها على ألحانِ حيائِها \" أخجلُ من أن أجيب يا حبيبي \".
هناك على ضفةِ النهر كنتُ أغمرُ رأسي بالماءِ لأرسلَ كلماتِي حروفاً ينقلها النهر بموجاته كلماتٍ تُسَطر ما يُجَسِدُ مخيلتها على الضفة الأخرى و هي تَردُ دائماً بألحان نجاة الخالدة ...من أين تأتي بالفصاحةِ كُلها و أنا يتوه على فمي التعبير.
ثم تلا ذلك المشهد ، صوتُها و هي تَصرخُ من على سماعةِ الهاتفِ لتزرعَ بكلِ عباراتِ الغضبِ أشجارَ الصبارِ في صدري .... أهلي يرفضونك يا حبيبي لأنهم يُريدونَ لابنتهم البقاء فقيرةً ما بقي الأزل يداعب يومها ، همْ يَرفضونكَ لأنهم يعتبرونكَ غريباً عنْ عائلتهم ، غداً سَتحرقني كأوراق الصحف لِتُشْعِلَ بها موقدك لتِتَدَفّأ و من ثم سوف ترميني في قمامتهمْ ، يَخشون عليّ إنْ تزوجنا غداً أن تمارس سطوتكَ الماليةَ عليهمْ و يقفونَ عاجزينَ عن الرفض ، لا أنسى كيفَ كانتْ تصرخُ من جهة و تبكي برقةِ الأنثى. من جهةٍ أخرى ، لم تُفلحْ مُحاولتي أبداً في تَهدئتها فلقد كان الأمرُ لدى عَائلتِها محسوماً و باتتْ تَبحثُ لي عنْ طريقٍ آمنٍ كي تَمرَ عربتي بسلامٍ من أمامِ بيتهم دونَ أنَّ تقفَ للتزودِ بالطعام لبقيةِ الرحلة .
هدوء قمري لم يفلح في إطفاءِ نارِ شمسها المتَقدةِ بين أنحاءِ جسمِهَا ... كانتْ آخرَ مرةٍ التقيتُ بها حين باغتُها مسرعاً اعذُرِيني يا حبيبتي أعلمُ جيداً أنني تأخرتُ عليكِ كانَ الطريقُ مزدحماً و لا يمكنُ لعربتي أن تصلَ إلى هنا لقدْ أوقفتُها بعيداً بعيداً جداً و جئتك ماشياً على قدميّ ... آهٍ يا حبيبتي لم أنمِ البارحة و أنا أكتبُ لكِ أخرَ قصائدِي إلا أنَّ أمي لم تَسمحْ لي بأن أُكمِلَها لقدْ بدأتْ تغارُ منكِ و تَصفني بالجنون و الآن أخبريني كيفَ حالكِ ؟ أعلمُ جيداً أنكِ قد تكونينَ سعيدةً بقدومي إليكِ ، أطمئنكِ محاولاتُ أُمي في أن تَخْطُبَ لي باءتْ بالفشلِ لأنني مازلتُ أحبكِ .... لمْ أستطعْ حينها أنْ أكملَ عباراتي ، روتْ دُموعِي ترابَ قبرها وضعتُ إكليلَ الوردْ ، زرعتُ قبلةً على حجارةِ القبرْ ... و رحلتْ .........
وفقكم الله ..ومزيد من التألق والإبداع ودام قلمك متميزا.