كان يرتدي قميصاً بلون حمرة التراب
وقد تزاحمت التجاعيد بكل زاوية منه....
ويجلس على كرسي متآكل وسط الزحام....
و ينظر إلى كل الناس من حوله و في نظراته حزن عميق ...
تتحرك أجفانه حركة المنهك الذي عمل طوال النهار
وانتظر لحظة الدخول إلى الفراش ليستغرق بنوم عميق و ينسى كل التعب و الإرهاق وضجيج
السيارات و أصوات المارة وكل الهدير في ذلك المكان.
اقتربت منه و كنت أرغب في التحدث إليه .
كان يضع هنا خضار و هناك علب سجائر وفي الزاوية الأخرى معدات وتجهيزات مختلفة و قد
تحولت طاولته إلى سوبر ماركت صغير بمساحة المتر المربع بلا جدران و تسقُفها السماء,
و ينتظر دون إلحاح أن تلفت بضاعته نظر أحدهم عله يطفئ ظمأ رغبته الخجولة في الحصول
على بضع نقود تجعله يعود إلى منزله بابتسامة صغيرة .
خانتني الأفكار ولم أحظى بفرصة التكلم معه فلملمت ما تبقى منها وعدت إلى منزلي و
طرقت الباب و كان الأولاد بانتظاري فاحتضنتهم بكثير من اللوعة والأسى هو بعمرهم
تقريباً لكنه كتب عليه الشقاء من صغره و اعتلت قامته الصغيرة ألوان البؤس والتعب
والعناء .
وعاهدت نفسي أن أمر لزيارته في اليوم التالي لأتفقده و أعيد المحاولة فقد ترك
انطباعا حزيناً لا يمحى من ذاكرتي .
و بعد عودتي من العمل و أنا أترجل من المايكرو باص وجدته بنفس المكان و نفس
اللباس و قد ارتسمت على وجهه آثار جديدة ليوم مرير مَر, و اقتربت منه واشتريت بعض
الأشياء و أخرجت النقود فنهض أمامي وكأن ثقلا كبيرا رمى بوزره على كتفيه ومد يديه
وقد امتلأت ثناياها بألوان التراب والغبار فوضعت يدي على كتفيه و نظر إلي نظرة
استغراب.
و بدأت الحديث معه و سألته أين عائلتك فنظر إلي نظرة يائسة ولم يجبني و أعدت
السؤال فقال لا أدري .
أين تسكن ؟ قال هنا ....
أين هنا ؟...........و بعد لحظات من الهدوء...........
و ما إن بدأ الحديث حتى بدا كبركان لم يعد يحتمل الحمم التي تغلي في أعماقه فلفظها
بكل قوة
ففي قلبه حسرة على والديه الذين غرقا بدمائهما التي نزفت بعد سقوط قذيفة هاون فوق
رأسيهما .
و في مآقيه دمعة محتبسه تحاول الهروب لكن دون جدوى
هنا خوفٌ على أخويه الذين استودعهما مع امرأة مسنة في ملجأ قريب ينتظران عودته
بفارغ الصبر ليجلب لهم الطعام قوت يومهم .
و هناك ألمٌ على مدرسته التي خانته بعد أن وعدته بالكثير من الآمال والأمنيات و قد
احترقت وأحرقت معها كل الذكريات مع تلك الكتب والدفاتر و أسكتت كل النكات و الضحكات
والقهقهات التي رنت في ساحاتها, و رمّدت كل الأحلام الصغيرة التي رُسمت على
جدرانها .
و اعترتني اللوعة على حاله و حال الكثيرين من أبناء جيله , يعيشون الضياع مأساتهم .
لم أعد أحتمل السماع أكثر لأنني لا أستطيع فعل أي شيء سوى مواساته و شحذ عزيمته .
و عدت إلى منزلي و الغيوم السوداء تتكبد أمام ناظري و ضاقت الدنيا بي و راودتني
الكثير من التساؤلات .
هكذا ستستمر الحياة ؟
هكذا سيضاف في كل يوم يمر أعدادٌ جديدة من الوافدين إلى قائمة اليتامى و المساكين ؟
هكذا سيبقى الملجأ هو البيت الآمن الوحيد للكثيرين من الأطفال الأبرياء؟
هكذا ستبقى فضلات الطعام وفتات الخبز المرمية تحت الجدران وجبة غداء فاخر لبعضهم ؟
هكذا سيبقى الأطفال في الشوارع والأزقة يبيعون السجائر و يعتلون الأرصفة ليبحثوا
عن القليل من النقود إن وجدوا السبيل إليها لشراء بعض الحاجيات؟
هكذا ستبقى رائحة البارود تفوح من أحاديثهم و يُسمع أزيز الرصاص و الإنفجارات من
صدى ألعابهم ؟
هكذا سيحرم الكثيرون من محو أميتهم ومتابعة دراستهم و الوصول إلى أحلامهم الخجولة
؟
هكذا ........... ؟وهكذا .......... ؟ و هكذا .............؟
هكذا تُجهَض الأحلام وتُدفن من قبل أن تُولد ؟.....لكن السؤال الأهم
...............إلى متى؟
ليلة ظلماء واشتد الدجى فيها و ما رأت عيناي منها كوكبٌ روّاح
إلا كما آنت على الأنظار لاح وزادت البلوى على صدري النواح
لقد شدني أسلوبكم في قصتك السابقة. يؤرخ في مؤسستي . ولكني اليوم أجدالتمكن والإحتراف في التصوير يبدع جوهرة جديدة من حيث القوة والسرد والتماسك . والموضوع هو ملمحجديد تسلطين الضوء عليه ببراعة واتقان . رحم الله حالنا فلقد اصبحنا مهجرين في وطننا . ومشردين في شوارعنا .ولقد تحولنا إلى أكلة لحوم البشر فنحن نقتات بألام بعضنا البعض .
يبدو ان تعليقي السابق على هذه القصة الرائعة التفاصيل لم تأخذه الصفحة لخطئ ما في الشبكة كنت قد ذكرت سابقا عن جمال هذه القصة القصيرة بكلماتها الكبيرة و اللامتناهية بمعانيها و تاثيرها على المتلقي واضيف اليوم ان سر جمالية هذه القصة هو بساطة طرحها القريب الى الادراك ... جميلة جدا و ممتعة القراءة كلماتك في هذه القصة اسأل الله أن يوفقك الى مزيد من التألق والإبداع