لم أستطع منع نفسي من تكرار مشاهدة فيديو الدمار في حلب .. دائماً ما أمتنع عن التورط عاطفياً في أي مشهد بشخوص حقيقية كي أحافظ على رؤية الصورة الكبيرة ..
لكني لم أستطع ..
لقد نزفت سوريا الكثير من أولادها .. كارثة تفوق عدداً شهداء فلسطين منذ نكبتها بما يقرب الضعف .. ومع ذلك كل ذلك الألم المتراكم لم يحصنّي ضد ما رأيت في هذا الفيديو ..
كان هناك شيء مختلف .. لم أر أشلاء أو دماء أو ما شابه .. حتى أنني أهملت الصوت كي ألغي تأثير الصراخ والبكاء والشتائم ودوي تراكم الأحجار على حقيقة وواقعية المشهد الغير سينمائي .
ماذا رأيت إذاً .. خيل إلي أن هذا البناء الهائل الذي سقط كان بحد ذاته وطناً ..
حجم الدمار المهول أوحى لي بأنه صاروخ .. ثم قلت ما يدريني ؟ لست خبيراً .. إلا أن الأكيد أن هذا الشيء الذي فعل هذا الفعل أكبر من الصاروخ .. أكثر جبروتاً .. فإن لم يكن اسمه صاروخ .. أو قذيفة فماذا يهم ؟ إسمه أقل فتكاً بالتأكيد من فعله المدمر ..
خيل إلي أن هذا البناء هو وطن صغير لساكنه .. خيل إلي أن مدنياً خرج منه صباحاً .. ثم عاد ولم يجده .. لا هو ولا من بداخله من عائلته .. خيل إلي أن هذا المدني الوحيد قد فقد وطناً صغيراً ..
خيل إلي مقارنة الألم الذي شاهدته مرةً في عيني الطفل الفسطيني الذي صرخ بكل ما في الحياة من ألم عندما هدم الاحتلال الإسرائيلي بيته .. وطنه الصغير .. لكن الألم هنا ممزوج بفراق السكان .. الذين لم ينذرهم أحد بالإخلاء ..
خيل أن هذا المدني .. غير العابئ بأي شيء من عالم السياسة القذر .. أو شعارات الأوهام البراقة ووعودها .. فشل في حماية وطنه الصغير والدفاع عنه .. وخيل إلي أنه إذا انطلق متربصاً بمن أصدر أمر إطلاق هذا الصاروخ فقتله .. فإنه لن يكون مختلفاً عن أي فلسطيني ظفر بشارون أو أحد ضباطه فقتله ..
سألجأ طبعاً إلى الجدال مستعملاً المنطق .. صارخاً بهذا المدني : إنك لا تستطيع الوصول إلى من أطلقه دون غيره .. نعم .. هذا ما سأجادل به ..
لكني بالطبع أعلم علم اليقين أنه هناك .. موجود .. ومجرم .. وأعلم أن شيئاً بهذه الضخامة لا يمكن أن لأحد أن يمتلكه لو لم يكن في موقع مسؤولية كبير .. مسؤولية تفرقه عن أي مقاتل أو إرهابي قد يلجأ لمقارنة نفسه به تبريراً لقراره ..
أخيراً خيل إلي .. أن من يريد الانتصار على الإرهابيين المتطرفين .. ربما كان سعى لاغتيال قادتهم بأي طريقة .. لكنه بالتأكيد لن يسعى لمنح الناس أسباباً للالتحاق بهم .. فيصنع حلقة مفرغة شريرة لا تنتهي إلا بإنتهاء الأوطان الصغيرة مجتمعة .. ليفنى بانتهائها الوطن الكبير
إن جميع ما تراه من مقاطع فيديو وصور . لها هدف واحد . وهو جذبك من حبال العاطفة لتصبح اسيرا لدى ما تشاهده ثم تنفعل وتفعل . وهذا بالضبط ما خطه قلمكم استاذ وبيدكم وما حصل معكم . إن بين الحق والباطل شعرة فاصلة . وكم من احكام نطلقها اليوم ويظهر عدم صوابها غدا . أرجو منك التريث قليلا فستكشف لك الأيام ...... مع فائق الأحترام . تقبل مروري