يبدو أن إنسان هذا القرن قد بدأ في خوض مرحلة مختلفة في بناء قيمه الجديدة المتناسبة مع مفاهيمه الجديدة في الحياة، بعد أن ملَ القيم والمبادئ التي أضاع آلاف السنوات من عمره وفكره وأدبه وتراثه في وضعها وتنفيذها والتمسك بها، فالقرن الواحد والعشرون أتى ليقلب كل المفاهيم والقيم وكأنه اتخذ عنواناً له هو: " كل شيء بالمقلوب " .
بداية هذه المرحلة كانت بتغيير المبادئ، فكل ما أنتجه الفكر البشري في الماضي من مبادئ أصبح دقة قديمة، بالنسبة لمن يدعون أنهم من صناع الحضارة الجديدة، بما في ذلك مبادئ الدين والأخلاق والعدالة والمساواة وتقاسم الموارد، فهذه المبادئ برأيهم لم تجد نفعاً لإنسان القرن الواحد والعشرين، فحولوا الديانات السماوية السمحة إلى أحزاب سياسية متصارعة بما سموه صراع الحضارات، وحولوا المتطرفين من أتباع هذه الأحزاب إلى إرهابيين لينتقلوا إلى مرحلة جديدة في تشويه هذه الأديان بربطها بالإرهاب، كما رأوا أن الشيوعية تفاهة واهية فدمَروها، وعمموا ظاهرة المافيا البشرية، التي أعادت للعالم لذة الرقيق الأبيض الذي حوَل نساء المكننة الصناعية والزراعية إلى بنات هوى منتشرات في كل بقاع الأرض، لتمتلئ بهن نوادي الليل والمراقص ودور الدعارة، بينما يركض الشباب اليوم ليل نهار لتأمين سبل عيشهم بأساليب مضنية، متجاوزين ما اعتبره عمال القرن الماضي ثورة في حياتهم، حين حددوا ساعات العمل اليومية بثمان ساعات فقط، ليعملوا اليوم ساعات وساعات دون توقف. أما العنصرية السوداء التي أغرقت أميركا سنوات وسنوات فقد أعطاها القرن الواحد والعشرون هيكلية جديدةً لإظهارها بأبهى أشكالها، فالإهمال والفوضى والايدز قضى على معظم أبناء أفريقيا وأمريكا السوداء بينما يموت الباقي اليوم بما يدعونه الجفاف والجوع والأمراض كالكوليرا وغيرها، إضافة إلى الحروب الأهلية التي أصبحت تهدد ملايين البشر.
أما سلطة الحكام، التي جعلها رجال الدين في القرون الماضية هبة من السماء، وجعلوا أولي الأمر في مرتبة تقل قليلاً عن الأنبياء، لدرجة أنهم أصبحوا خلفاء لهم، أرسلهم الله لرعاية وقيادة المجتمعات البشرية، فقد أصبحوا اليوم أيضاً جزءاً من عجلة التطور التي يرغبها الجيل الجديد، فلا عجب أن يزج بهؤلاء القادة في حروب طاحنة دون أية مقدمات، وتحدث لهم محاكم دولية تحاكمهم وتهزئهم وتعاقبهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد البشرية، في حين لا يزال آلاف العسكريين والمسؤولين المدنيين ممن أعلنوا الحروب وساهموا بشكل أو بآخر في قتل ملايين البشر عبر تاريخ البشرية الطويل، أبطالاً في سجلات أوطانهم لم يتعرض لهم أحد، بل على العكس تماماً لا يزالون يذكرون كقادة عظماء لأوطانهم. وقد وصل أمر الاستهانة بالحكام بأن ترمى الأحذية في وجوههم، أو يرمون بالبيض والبندورة ويتلقون لكمات المواطنين في الشوارع، أو تحرض شعوبهم، التي عبدتهم سنوات وسنوات، لتخرج إلى الشوارع هاتفة بإسقاطهم مهما حاولوا فعله، ليهووا كما تهوي أشرعة الزوارق المائية عندما تشتد الرياح عليها.
لم يعد إنسان القرن الواحد والعشرين مؤثراً في مجتمعه، فقد انقاد مستسلماً للآلة الجديدة التي ابتدعها في بدايات القرن الماضي وأسماها الإعلام، ليتحول إلى إنسان جديد، لا يعرف ماذا يأكل ويلبس ويشرب، فقد سيطرت عليه وسائل الإعلام بالكامل، لدرجة أنه أصبح عبداً لها، تعلمه ماذا يأكل ويشرب ويلبس، وتخلق له الثورات، وتسمي له المراحل التي عليه خوضها، وتدفعه لكي يموت، لكنها تحزن عليه فقط إن مات بنيران قوات حفظ الأمن المحلية، بينما تتجاهله تماماً وتتجاهل حقوقه البشرية إن مات بنيران القوات الدولية التي تعيث قتلاً وتدميراً بالناس دون قيد أو شرط، فتعطي الشرعية للقوات المعارضة لفلان بالقتل كما يحلوا لهم، وتقوم بسحق من أسمتهم القوات الموالية لفلان، مع أن الأشخاص في الجانبين أبناء وطن واحد، ولا يقتصر الأمر على ذلك، فوسائل الإعلام هذه تخلق للجيل الجديد إلهاً جديداً ورجال دين وقادة ومحللين وسياسيين افتراضيين جدد على ذوقها، لم يسمع عنهم أو يلقاهم أحد في حياتهم، سوى في آلاف الأقنية الفضائية التي تسطع كالألعاب النارية، تملأ السماء فجأة ثم تخبو لتظهر من جديد وباسم جديد تملأ السماء وتشغل الناس لتخبوا مرة ثانية وهكذا دواليك. وقد أصبحت هذه المحطات الفنية والإخبارية والدينية توزع كل شيء بالمجان، جنس ودين وثورات ومسابقات، فبقدر ما استطالت الذقون في واجهات الشاشات الصغيرة، قصرت الألبسة أو انعدمت، والنتيجة واحدة، عيون مسمَرة طوال النهار، وعقول تدور في فلك وسائل الإعلام أو وسائل الاتصال الأخرى، لتتوقف الأبقار والأغنام عن الاجترار وحدها، ويصبح الإنسان بكل عظمته وجبروته واحداً من تلك المجترات، يعيد ويجتر مشاهدة برامج وألعاب ومسلسلات لاعدَ لها ولاحصر، ولا تغني ولاتزر.
لكن... من هو إنسان القرن الواحد والعشرين في هذا الزمن المقلوب؟ لا أعتقد أن أحداً قادر على الإجابة على هذا السؤال!! فالإنسان الجديد بدأ يفقد خصائصه الطبيعية، فبعد أن أوجد الروابط الأسرية التي جعلت العائلة عمادها، والزواج وسيلة للوصول إليها، ووضع أسساً لهذين الحدثين الهامين، واعتبر قواعد الأخلاق والفضيلة أساساً لتقييم الفرد، نفض اليوم عنه كل هذه القواعد، وبدأ يناضل لوضع أسس قانونية لتنظيم الحياة المثلية بين أزواج الجنس الواحد، معتبراً أن اتهامها بالشذوذ أمر غير مقبول، فهي تمثل حالة عصرية يجب تقبلها برحابة صدر، ووضع أسس جديدة لحمايتها وقوننتها، وبالطبع فهذا الإنسان لم يعد يقبل فنون وآداب أسلافه، فقد ابتدع فنونه وآدابه الخاصة، فهو يرقص البريك ويفري الأرض فرياً، وتنساب كلماته في الراب ميوزيك كانسياب المياه من الشلالات العالية، أما أدبه فهو يملأ شبكات التواصل الاجتماعي، بمختصرات ومصطلحات تجمع كل شيء مع كل شيء، والنتيجة لاشيء محدد.
كل شيء بالمقلوب... فالأهل ملزمون بسماع أوامر أولادهم وآرائهم وتنفيذها، والمعلم عليه أن ينفذ تعليمات تلاميذه في طرق التعلم ومضامينها وأساليبها، والأساتذة حريصون على ألا يتعلم تلاميذهم منهم، والمدراء عليهم تنفيذ تعليمات موظفيهم وتحقيق رغباتهم، وهم يقربون إليهم أكثر الناس سذاجة، وأقلهم فطنة كي لا يحتلوا أماكنهم. أما القادة فهم يكذبون على شعوبهم لإقناعهم بالفساد والفوضى التي تسود البلاد، وشعوبهم تكذب عليهم بإقناعهم بأنهم آلهة الشمس التي تجعل حياتهم نوراً، بينما يبيع أفراد كثر منهم أنفسهم للشيطان، ليضرموا النيران في بلدانهم، مستغلين رغبة الناس بالتغيير، دون أن يدركوا أنهم يدمرون أنفسهم وممتلكاتهم التي قضوا حياتهم في تأمينها. الجميع مشغولون اليوم، والفوضى تعم كل مكان، والمجتمعات التي تعتقد أنها تسير للأمام تتسارع في العودة إلى الوراء دون هوادة.
كل شيء بالمقلوب... فالإنسان الذي كان أغلى ما في الوجود... أصبح مثل قطع غيار السيارات له تسعيره محددة في هذا القرن... فالمواطن الأميركي أغلى شيء.. يتبعه الإسرائيلي الغربي الأصل، فالياباني الأصلي... فالأوربي الغربي، ثم الياباني من أصل صيني أو كوري، يتبعه الروسي الارستقراطي، فالأوربي الشرقي، فالكوري والصيني، يليه المواطن الخليجي، فالهندي والباكستاني الأرستقراطي، وهكذا إلى أن تنتهي القائمة بشعوب لا ثمن لها، فحياتها وموتها لايهم أحد، إلا إذا كان يعد لها خارطة طريق لمشروع ما، لا يعرف أحد بدايته ولا يعرف أحد نهايته، عندها تصبح هذه الشعوب هامة جداً، ويستيقظ العالم كله على نشرات الأنباء التي تطالب بحماية هذا الشعب أو ذاك، وتصوير الفظائع والمآسي التي يعيشها، وكأن هذه الشعوب كانت غارقةً بالعسل منذ بدء البشرية حتى بدء هذه الحملة الجديدة، حيث أصبحت تعاني الظلم والقهر والاستبداد هكذا وبشكل فجائي.
أما الكرة الأرضية التي يعيش عليها إنسان هذا العصر فقد ألغيت تقسيماتها الجغرافية التي جعلتها قارات ومناطق، لتصبح اليوم ثلاثة أقسام فقط، الأول منها يحتوي شعوب العالم الأول، وهو القسم الأرقى في العالم في مستوى معيشته وأسلوب حياته، تتجاوز بصمة قدم شعوبه البيئية أضعاف ما هو متاح له على حساب شعوب ومناطق أخرى بالعالم، وقسم ثان يحتوي الموارد الطبيعية التي يعيش عليها مواطنو القسم الأول، وبالتالي لا يحق لأحد أن يتمادى في ما يعتقد أنه ملكاَ له في هذا القسم دون العودة إلى فرسان القسم الأول المبجلين لنيل رضاهم وموافقتهم، أما القسم الثالث فهو الذي يؤمَن بشعوبه وموارده حطب الوقود للنيران المستعرة التي تحرق هنا وهناك، ليشع النور على شعوب القسم الأول. وقد أخذت الكرة الأرضية في هذا القرن اسماً جديداً لها، فقد أصبحت تدعى "القرية الصغيرة "، وبالطبع فإن هذه القرية يحكمها عمدة واحد يتحكم بالأقسام الثلاثة فيها، وهي مريضة بأمراض العصر التي تدعى بالأمراض البيئية حيث تعاني من الاحترار والتلوث والتدهور والموت، فالمياه تموت، والتربة تنعدم، والهواء يفنى.
ويبقى السؤال الأهم: هل هناك رؤية واضحة للمستقبل؟ لاشك أن هذا هو بيت القصيد، فالرؤية التي يتباهى العالم اليوم بوضعها للمستقبل، هي التي ستقوده إلى الدمار، فقد أثبتت التجارب أن كل ماوضعه الانسان من حلول مؤقتة لمشاكل البشرية، أنقذها اليوم، لكنه وضعها مستقبلاً في مشاكل أكبر وأخطر، فالسيطرة على الأمراض السارية الحادة في القرن الماضي، خلق مشاكل جديدة هذا القرن مع الأمراض المزمنة والبيئية والسرطانات، وتكثيف الإنتاج الحيواني والنباتي لتأمين غذاء للبشرية المتكاثرة بلا حدود، خلق مشاكل جديدة في انتشار الثمالات الخطرة من المبيدات والمخصبات والهرمونات والمعادن الثقيلة التي لوثت الأراضي، وأدت إلى عدم استدامة مواردها الطبيعية، واختلال التوازن الحيوي وانقراض التنوع البيولوجي فيها، إضافة إلى أثر ذلك النمط الحديث في الإنتاج على جفاف الأنهر والينابيع، وانتشار التصحر. لذلك لابد لنا عند البحث عن الحلول طويلة الأمد والمستدامة من تذكر أقوال أبسط البسطاء الساذجين الداعي إلى أن: ندع الخلق للخالق!!
فالطبيعة وحدها هي القادرة على السير في هذا الكوكب باتجاه الاستقرار الذي عاشه ملايين من السنوات، إلى أن ظهر الإنسان متمرداً على سطحه، يخالف قوانين الطبيعة في التكاثر والتعايش والتكافل والتكامل، ليبدأ بممارسة أفعاله المعقدة، معتقداً بأنه قادر على الخلود والتميز عن باقي كائنات المعمورة الحية، فوصل به المطاف لتحويل هذا الكوكب النادر والصغير إلى ما نحن فيه اليوم.
لذلك علينا جميعاً أن نعود إلى مجتمعاتنا الحقيقية، وأن ننظر إلى بني البشر في كل أصقاع الأرض على أنهم جزء منا، ونحن جزء منهم، وأن نعيش سوية بسلام وأمان مهما اختلف عرقنا وديننا وتنوعت أفكارنا، وأن نضمن السلام والأمان لكل شعوب الأرض. ولا يكفي أن نتكافل ونتعايش مع أبناء جنسنا فقط، فالبشر جميعاً لا يشكلون إلا جزءاً صغيراً جداً وهشاً من المجتمع الحي الكبير، بنباتاته وحيواناته، وإنسان اليوم لا يعطي باقي الكائنات الحية أية أهمية تذكر، سوى أنها مصدراً لغذائه وكسائه، لذلك علينا أن نتكافل ونتعايش ونندمج ونحترم كل هذه المجتمعات، لنصبح قادرين من جديد على العودة إلى موقعنا الطبيعي على هذا الكوكب، وفق رؤية واحدة شاملة وقديمة لم نضعها نحن، بل وضعها بالتأكيد خالق هذا الكون، واستطعنا بما تعلمناه عبر تاريخ هذا الكوكب الطويل أن ندرك ولو متأخرين أن بقاءنا مرتبط باستدامة هذا الكوكب بموارده الطبيعية، والعيش مع كافة كائناته الحية، بما فيهم من بني البشر، بسلام. H