كل واحدٍ منا قد يندم على فعل أمرٍ ما , أو على فواتِ أمرٍ ما , فتراه يُكثر من قوله :
ليتني فعلت كذا , ولو فعلت كذا لما حصل معي كذا...
فنقول له : هوِّن على نفسك , وقل : قدر الله وما شاء فعل , وتذكر دائماً أنه :( ما كلُّ ما يتمناه المرء يُدركه ) , وكم من أمرٍ ندم الإنسان على فواته فكان فواتُهُ خيراً له ! , وكم من مُتَمَنٍّ كانت مَنِيَّتُهُ في أمنيّته , فما عليك إلا أن تكرر هذه الآية الكريمة : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) . (1)
...ثم إن ارتشافَ الندم , وتجرُّعَ الحسراتِ , ولهيبَ الآهات , وجمرَ الزفرات , لا يُفيد في أيّ شيء , وهي أشياءُ لا تزيد صاحبَها إلا أسىً ولوعة , وأشجاناً وانتحاباً , لأنها لن تُغيِّر من قضاء الله وقدره أيَّ شيء , فكلُّ مُصيبةٍ مقدَّرةٌ في كتاب عند الله قبل وجودها , سواءٌ أكانت المصيبةُ في النفس أم في الأرض , وسواء أرضيَ الإنسان بها أم سخط , لذلك قال تعالى في كتابه العزيز :
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) .(2) وعلى الإنسان العاقل أن يعلمَ أن ما أصابه لم يكن ليخطئَه , وما أخطأه لم يكن ليصيبَه , كما قال كعبُ بن أُبَيٍّ لابن الدّيلمي :
(وَلَوْ أَنْفَقْتَ جَبَلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ , وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ , وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ) (3)
ومن أجمل الوصايا التي يجب على المرء أن يأخذ بها , ويعلّمها لمن يُحب , تلك الوصيةُ الخالدة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم ابنَ عباس , والتي يرويها لنا ابن عباس رضي الله عنه , فيقول :
كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ :
( يَا غُلَامُ , إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ , احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ , وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ , وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ , وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ , رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ , وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) .(4)
فالإنسانُ المؤمن يقيناً بالقدرِ لا يُقلّبُ كفيه على ما فاته من الأمور , ولا يُتبِعُ الأمرَ الفائتَ بـ (ليت , وهلّا) و يتمثّل قول القاضي الْجُرجاني :
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبتْ أقـلـبُ كفي إثرهُ متندما
ولكنه إنْ جاء عفــواً قبلتُهُ وإنْ مال لم أتبعهُ هلا وليتما (5)
ثم إن العجلةَ , واتباعَ الهوى , وتسويلَ النفس , ووساوسَ الشيطان هي المطايا التي تُوصل من امتطى متنَها إلى بيداء الندامة , فقابيلُ ما ارتكب جريمة القتل إلا بعد أن سوّلت له نفسه , ثم أصبح فيما بعدُ من النادمين , ولكن بعد ماذا ؟! بعد ما ارتكب جريمة القتل العمْد , وليته ندم على ارتكابه جريمةَ القتل , بل ندمَ لأنه لم يعرفْ ماذا يفعل بسوءة أخيه , وكيف يُواريها بعد أن تعب من حمل أخيه ميْتاً كما في بعض التفاسير , وانظر كيف صور الله سبحانه وتعالى لنا هذا المشهد :
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) . (6) وكذلك فعل القتّال الكلابيُّ عبيدُ بنُ مجيب بنِ المضرحيّ , ندم , ولكن بعد أن قتلَ , واحمرت يده من الدماء , وماذا ستنفع الندامة ؟ قال :
فلمَّـا رَأَيتُ أَنَّه غيرُ مُنْتَه أَمَـلْتُ له كَفِّي بلَدْن مُقَوَّمِ
فلمَّا رَأَيتُ أَنَّنِي قد قَتَلْتُهُ نَدِمْتُ عليهِ، أَيَّ ساعَةِ مَنْدَمِ (7)
...هذا في عيون الشريعة الغراء , لكنّ الأمرَ قد يختلف بعض الشيء في عيون الشعراء وأهل الأدب والأمثال , فهم فقط يهتمون بجانب النحيبِ والحسرات , وإظهار التندّم على ما فات , وقليلاً ما يذكرُ أحدُهم أن ما تَمَّ من أمورٍ هو بقضاءٍ من الله وقدرٍ , وذلك كما فعل الإمام الشافعي في مطلع قصيدته المشهورة , حيث يقولُ :
دعِ الأيامَ تفعل ما تشاءُ وطبْ نفساً إذا حكم القضاء
وهذا طبعاً لأن الإمام الشافعيَّ هو إمامٌ في الشريعة , بل وصاحب مذهب , وهو كذلك يعتبر أن الشعر يزري بالعلماء , ولولا ذلك لكان أشعرَ من لبيد كما قال !.
وفي كتب الأدب نرى أن هناك شخصاً كلما ذكر الندم يذكر معه , وهو ممن اشتُهر بندمه حتى ضُرب به المثلُ , وهذا الشخص اسمه :( الكُسَعِيّ ), حتى قيل في المثل : أندمُ من الكسعي . وقيل أيضاً : ندم ندامةَ الكُسعي , فمن هو هذا الرجل ؟ وما قصته ؟
..إنه محارب بن قيس , ومن حديثه كما ذكروا :
أنه كان يرعى إبلاً له، فبصر بنبعةٍ [شجرة ]في صخرةٍ، فأعجبته؛ وقال:
ينبغي أن تكون هذه قوساً، فجعل يتعهّدها ويرقُبُها، حتى إذا أدركت, قطعها وجفّفها؛ فلما جفت اتخذ منها قوساً وأسهُماً... ثم خرج حتى أتى غرةً على مواردِ حميرِ وحشٍ ، فكمن ليلاً فيها، فمرَّ قطيع منها، فرماه , فمرق منه السهمُ ، فظن أنه أخطأ، ثم لم يزل يفعلُ ذلك حتى أفنى الأسهمَ الخمسةَ في أعيارٍ خمسة ، وقد أصابها كلَّها، ومرقَ منها سهمُهُ ، فأصابَ الصخرةَ فأجج ناراً، وهو يظن أنه أخطأها...
..ثم عمد إلى القوس ، فضرب بَها حجراً، وكسرها ونام ...
فلما أصبح نظر إلى الأعيار مصرعةً حولَه ، ونظر إلى أسهمه مضرجةً بالدم؛ فندم على كسر القوس، فشد على إبهامه، فقطعها، وأنشأ يقول:
ندمتُ ندامةً لو أن نفـسي تطاوعني، إذن لقطعتُ خَمسي
تَبَيّنً لي سـفاهُ الرأيِ منّي لعمرُ أبيك حين كسرتُ قوسي
وسارت ندامتُه مثلاً في كل نادمٍ على ما جنته يداه. (8)
لذلك قال الشاعر مخاطبا أحد النادمين :
ندمتَ ندامةَ الكُسعيِّ لما رأت عيناكَ ما صنعت يداك(9)
وكذلك عندما طلق الفرزدقُ زوجتَه النوار قال أيضاً :
نَدِمْتُ نَـدَامةَ الكُسَعِـيِّ لَـمَّـا مَضَـتْ مِنِّـي مُطَلَّقةً نَوَارُ
وَكانَتْ جَنّـَةً فَخَرجْتُ مِنـْهَـا كآدَمَ حِـينَ أخْرَجهُ الضِّرَارُ
وَكُنْتُ كَفَـاقِـئٍ عَيْنَـيْه عَمْـداً فأصْبَحَ مَـا يُضِيء به النَّهَارُ
وَلَوْ ضَنَّتْ يَـدَايَ بـهَا ونَفْـسِي لَكَـان عَليَّ لِلقَـدَرِ الخِيَارُ
ومَا فَـاَرْقتـُها شِبَعـاً، ولـكِنْ رأيْـتُ الدَّهرَ يَأْخُذُ ما يُعارُ (10)
ولكنْ , وحتى نعالج هذا الأمرَ بإنصافٍ فإننا نقول : على الإنسان أن يندم أحياناً , وأحياناً عليه أنْ لا يشعرَ بالندم , فكيف ذلك ؟
يأتي الجواب كالتالي :
إذا كان الأمر فوقَ طاقة الإنسان , ومن الأمور الغيبيّة المقدَّرة عليه, فلا ندامةَ ولا حسراتٍ , لأن ذلك لن يُغير من القدر شيئاً , ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا , وذلك كالموتِ والأمراض , وما يعتري الإنسانَ من آفاتٍ جراءَ الزلال والبراكين , وباختصار : كلُّ ما لا طاقة للإنسان فيه....
وأما إذا كان الأمرُ الذي لا يُريدهُ المرءُ قد حصل بسبب تقصيرٍ منه , وعدمِ أخذه بالأسباب , ولولا تقصيرُهُ لما حصل له ما يكره ـ كطالبٍ رسبَ في الامتحان لأنه لم يدرسْ جيداً ـ فلا مانع من الندم في هذه الحالة وأمثالها , لأن الندمَ في مثل هذه الحالاتِ يشحذُ الهمم , ويَمضي بأصحابها في دروب التقدم والطموح.....
... وكذلك العبد الذي عصى ربه يوماً ما , فإن الندم في مثل هذه الحالة واجبٌ عليه شرعاً , وعليه أن يُسرع في الندم قبل أن يُغرغرَ , لأن عليه أن يتوبَ , وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : (الندم توبة) (11) .
وختاماً نقول : اللهم لا تُكلّفنا ما لا طاقة لنا به , والطفْ بنا في ما جرت به المقاديرُ , ولا تجعلنا من النادمين , يومَ لا ينفع ندمٌ , ولا مالٌ ولا بنون , إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ البقرة : 216
(2) ـ الحديد \22ـ 23
(3) ـ رواه أحمد في المسند
(4) ـ رواه الترمذي وقال حسن صحيح
(5) ـ التذكرة السعدية , العبيدي , 1\37
(6) ـ المائدة 30ـ 31
(7) ـ الحماسة البصرية , أبو الحسن البصري 1\15
(8) ـ ثمار القلوب في المضاف والمنسوب , الثعالبي 1\41 . وانظر الكتاب : كتاب جمهرة الأمثال , أبي هلال العسكري الطبعة الثانية ، 1988 تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم و عبد المجيد قطامش 2\325- 326
(9) ـ حياة الحيوان الكبرى , الدميري 2\132
(10) ـ طبقات فحول الشعراء , ابن سلام الجمحي 1\42
(11) ـ رواه أحمد في المسند , وانظره في المعجم الصغير للطبراني : 1\83
https://www.facebook.com/you.write.syrianews