أعكف هذه الأيام على قراءة تاريخنا من مصادره الأساسية، من خلال مخطوطات وكتب تركها لنا الكتَاب القدماء تدويناً حقيقياً لعصورهم، علَي أجد في هذا التاريخ المتنوع بوارق أمل تجعلني أكثر قدرة على تحمل درجات الجهل والتخلف التي آلت إليها حالنا اليوم، مع دخول العلم عالمه الإفتراضي المبدع، الذي جعل الأفكار والأحلام تصبح حقائق نشاهدها بأم أعيننا، في حين لاتزال شعوبنا تعيش على هداية أفكار الغرب وصرعاته ما جعلهم مدمنون يعيشون بإفتراضيات زائفة خارج حدود عالمهم الطبيعي.
لكن أجمل ماوقعت عيني عليه في ذلك التاريخ الطويل هي تلك البوارق اللامعة التي مرت سريعاً في تاريخ البشرية لكنها لم تختفي، بل بقيت على الرغم من تجاهل الكثيرين لها محطات منيرة في حياة الانسان وتطور الإنسانية، مهدت بالتأكيد لحياة أفضل في عوالم أفضل.
وقد لفتني من هذه البوارق شخصيتان سوريتان هامتان عاشتا بفترات زمنية مختلفة تماماً، لكنهما اتسمتا بالعلم والفضيلة، فتركتا آثاراً فكرية أثرت في حياة البشر جميعهم، وبقيت لهم ركيزة خصبة لم تنضب، الأولى هي شخصية الطبيب الحبيب لوقا السوري الذي ولد في أنطاكيا السورية في سنوات التأريخ الميلادية الأولى، ويعني إسمه حامل النور، أو المستنير، دوَن الإنجيل، وكتب سفر أعمال الرسل في الفترة الواقعة بين عامي 58 و 63 ميلادية ليحفظ للبشرية رسالة يسوع المسيح للعالم أجمع، والثانية شخصية عالم التراجم وتأريخ المدن أبو القاسم علي ابن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، والمولود في دمشق عام 1057 ميلادية، أي بعد حوالي ألف عام من القديس لوقا، والمعروف بتراثه الغني الذي حفظ للأجيال معالم جغرافية وتاريخية هامة ساهمت في تطور الفكر البشري.
كان لوقا الإنجيلي السوري واحداً من الأربعة الإنجيليين اللذين دوَنوا الإنجيل الكنسي ليسوع المسيح في العالم أجمع، ولد في المدينة السورية أنطاكية، ويرجع إليه كتابة إنجيل لوقا وكتاب أعمال الرسل التي شكلت في الأصل عملاً أدبياً واحداً، سجّل فيها حياة السيد المسيح وأعماله، وعمل الروح القدس الذي يبدو ظاهراً ملموساً في كل خطوة، فكلمة "الروح " و "الروح القدس " تتكرر مراراً عديدة في سفر الأعمال، أكثر من أي سفر آخر في العهد الجديد، وهو الوحيد من بين كتَاب العهد الجديد الذي لم يكن يهودياً بل كان أممياً، فقد ذكره القديس بولس في رسالته إلى أهل كولوسي ضمن الأمميين، ودعاه الطبيب الحبيب، وارتبط معه بصداقة قوية، ففي سفر الأعمال أقلع الإنجيلي لوقا مع الرسول بولس من تراوس، عقب الرؤيا التي أُعلنت لبولس، ورأى فيها رجلاً مكدونياً يقول له:
"أعبر إلى مكدونيا وأعنّ "، ثم إلى ساموتراكى ونيابوليس، ومن هناك إلى فيلبي (الرحلة التبشيرية الثانية)، وقد كتب لوقا إنجيله للناس جميعاً، لذا فقد شرح لهم بإيجاز موقع المدن الفلسطينية، والمسافات بينها وبين أورشليم، كما أنه لا يرجع إلى نبوات ولا يشير إلى إتمامها في شخص يسوع على نحو ما يفعل متى في إنجيله، لكنه يقدّم نظرة عامة وشاملة على المسيح كمخلص جميع البشر، ومتمم اشتياقات كل قلب، ومن هنا فإن سلسلة نسب المسيح يرجعها لوقا لا إلى إبراهيم كما فعل متى، بل إلى آدم أول الأنبياء وأب جميع البشر، كما يهتم لوقا اهتماماً خاصاً بإبراز أن المسيح مخلص الأمم أيضاً، ولوقا في إنجيله يظهر المسيح الإنسان في ملء بشريّته، وأنه مثلنا في كل شيء ما خلا الخطيئة، ويصوره في كل البشارة على أنه صديق الخطائين الرحيم، وشافي المرضى، ومُعَزّي منكسري القلوب، وراعي الخروف الضال، كما أن اهتمامه في الطب والفن جعله معروفاً في العالم المسيحي كشفيع للفنانين، والأطباء، والجراحين، والطلاب، والجزارين، ليحتفل به المؤمنون المسيحيون في الثامن عشر من تشرين الأول من كل عام، يوم عيد هذا القديس العظيم.
عاش لوقا بتولاً، واستشهد في سن الرابعة والثمانين مصلوباً على شجرة زيتون في أيلوي ببلاد اليونان، وقد نقل الإمبراطور قسطنطينوس الثاني رفاته من بترا في أخائية إلى القسطنطينية عام 357 م مع رفات اندراوس الرسول ليتم في عام 1177 م نقلها إلى باداو بإيطاليا، ولتبقى كتابات هذا السوري أخلاقاً يتمثلها مليارات من الناس، في شرق العالم وغربه.
أما المؤرخ الكبير ابن عساكر الذي ولد في دمشق عام 1057م فقد قضى عمره في التعلم، والتنقل، والتعليم، والتأليف، فهو نشأ في بيت علم وقضاء وفقه، وكان أبوه شيخاً صالحاً عدلاً عرف بين العلماء بحفظه الحديث، وكان أخوه الأكبر الصائن هبة الله فقيهاً عارفاً بالقراءات، وأفتى في دمشق، وكتب في علوم القرآن، والحديث، واللغة، كما كانت أمَه من بيت عرف أهله بالعلم والتقوى، ولنشأته تلك أثرها الوراثي والبيئي في نبوغه، فقد سمع العلم وهو صغير، وتردد على كبار الشيوخ، فقرأ على سبيع بن قيراط، واستمع إلى أبي القاسم النسيب، وأبي الفرج الصوري، وأبي طاهر الحنائي، ولم يكتف بتلقيه العلوم عن علماء دمشق، بل استكتب شيوخ بغداد، وخراسان، موجهاً إليهم الأسئلة، طالباً التوضيح والتوجيه، على طريقة مكاتبة العلماء ومراسلاتهم في ذلك الوقت، وتنقل في مجال تعلمه بين بغداد وخراسان ومكة، وعاد إلى دمشق ليشرع في الحديث والتدريس، بعد أن بلغ الرابعة والثلاثين من عمره.
شهد ابن عساكر التجربة القاسية المريرة في عصره يوم أقبلت جموع الصليبين تحاصر دمشق، وتريد الاستيلاء عليها، فاستعصت عليهم بمقاومة شعبها، وصمودهم، وفكَر ابن عساكر في تلك التجربة طويلاً، وكان يعرف أن الخلاص لا يتم إلا بالوحدة، وأن الوحدة لا يمكن أن تتم إلا بقيادة مخلصة واعية شجاعة مؤمنة، وكان هذا القائد هو نور الدين الشهيد محمود ابن عماد الدين الزنكي، فالتقى الرجلان، وتمتَنت أواصر العلاقات بينهما، حتى صار نور الدين يحضر مجالس ابن عساكر، ويستمع إلى أحاديثه، وبنى الملك العادل نور الدين أول دار للحديث الشريف، وتولى ابن عساكر الإشراف عليها، والتدريس بها، فأدى للعلوم الإسلامية خاصة، والثقافية عامة، خدمة طبعت بآثارها الأجيال المتلاحقة، كما قام الملك العادل بتشجيع ابن عساكر على إكمال مصنفاته، ولا سيما مشروعه العملاق في تاريخ دمشق، بعد أن رأى فيه مطلبه ومبتغاه الذي يستعين به في تحقيق هدفه، وبلوغ مراده، فاستجاب ابن عساكر لرغبة الملك العادل في الاستمرار بالتصنيف والتأليف، ولم تثنيه علاقته بملك ملوك عصره على أن يحفظ قدر نفسه، ومن دليل جرأته في الحق غيابه عن حضور مجالس السلطان صلاح الدين، وعندما عاتبه في ذلك أجابه ابن عساكر:
نزَهت نفسي عن مجلسك فإني رأيته كبعض مجالس السوقة لا يستمع فيه إلى قائل، ولا يرد جواب متكلم، وقد كنَا بالأمس نحضر مجلس نور الدين، فكنا كما قيل، كأنما على رؤوسنا الطير، تعلونا الهيبة والوقار، فإذا تكلم أنصتنا، وإذا تكلمنا استمع إلينا، فتقبل صلاح الدين هذا النقد اللاذع، وطلب من رجال مجلسه الالتزام والإنصات بوجود ابن عساكر، وقد ذكر المؤرخ ابن خلكان أحمد البرمكي في كتابه "وفيات الأعيان " وصفاً لكتاب تاريخ دمشق لإبن عساكر: إن العصر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبيه، ويقول فيه المؤرخ ابن الأثير أبو الحسن عز الدين علي الذي له كتاب "الكامل في التاريخ ": لقد صنف تاريخ الشام في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعده مخلدة، وقد أبر على من تقدمه من المؤرخين، وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين.
وظَف ابن عساكر علمه وموهبته في الحفظ والتأليف لخدمة بعث الفكر العربي الإسلامي، ونهوض الأمة، ووقف إلى جانب الملك العادل نور الدين محمود في عمله من أجل وحدة بلاد الشام ومصر، منطلقاً إلى المغرب العربي في سبيل التحرير، وإقامة دولة موحدة قوية، تنهي عصر الدويلات، والتشرذم، والفرقة، وتستطيع الوقوف في وجه أطماع الصليبين بوجه خاص، والأطماع الخارجية بوجه عام، وتجلى في شخصية ابن عساكر التوظيف العملي لمفهوم العقيدة، وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم المجتمع، لذلك نرى في شخصيته ومنهجه وضوحاً فكرياً، وفي تصرفاته اتزاناً ومصداقية تؤكد عمق إيمانه، ورسوخ عقيدته، ووضوح نظرته، وقد نجح هذا التوظيف للعلاقة بين العقيدة والسياسة في بناء دولة موحدة، وتحقيق الانتصار على الأعداء، مؤكداً أهمية دور المفكرين والعلماء في إثراء الحياة الثقافية للمجتمع، وتحقيق تماسكه في إطار دولة تستمد قوتها من قوة شعبها، ومنعته، ووحدته، وغنى حياته الثقافية والعلمية.
توفي ابن عساكر في دمشق عام 1175م ودفن بها، ومشى السلطان صلاح الدين الأيوبي في جنازته يتقدم جموع المشيعين، وكان حاسر الرأس على غير عادته، كدليل على علو مكانة ابن عساكر، وعلى عظيم إجلاله وتقديره له، ولايزال ضريحه يتوسط تربة الباب الصغير في منطقة كبيرة من دمشق تحمل اسمه .
تميز عمل ابن عساكر في تاريخ دمشق ببيان فضائل الشام، وأن الله جعل فيها صفوة عباده، وأن الرحمن يرحم الشام، وقد أضاءت قصورها عند مولد النبي، وهي أرض المحشر والمنشر، وخلص إلى فضائل دمشق، فقال فيها: إنها مدينة من مدن الجنة، ومهبط عيسى قبل قيام الساعة، وفسطاط المسلمين يوم الملحمة، وأن أهلها لا يزالون على الحق ظاهرين، وسيعرفون في الجنة بثيابهم الخضر، ومن أقواله المأثورة: سينفى الخير عن الإسلام إذا فسد أهل الشام، وهذا القسم من مؤلفاته الضخمة يعد أكبر أقسام المجلد، ويستغرق خمسة أجزاء فيها ثلاثة وثلاثون باباً.
تلك هي أمثلة رائعة من بوارق تاريخنا لمعت فأضاءت، وكانت بوارقها مصدر نور للبشرية جمعاء، وسواء خرجت تلك الإبداعات البشرية من دمشق، أو أنطاكية، أو غيرها من المدن والقرى السورية، فهي تملأ صدورنا برحابة لاتوصف، وتذكرنا وبكل تواضع أننا "سوريون ونفتخر
https://www.facebook.com/you.write.syrianews