أرد الرد على المساهمة المذكورة في ركن التعليقات ولكن لطولها فضلت نشرها في ركن مساهمات القراء.
لا أعرف تاريخياً متى بدأت نغمة فصل الأخلاق عن الدين عند المسلمين في حياتهم اليومية.
أصبح من العادي مشاهدة تاجر يسرق ويغش ثم يحرص على الصلاة في أول الوقت و من العادي أيضا" مشاهدة موظف مرتشي لا تفارق السبحة يده.... سبب ذلك انفصاماً عند الناس في مفهوم الدين فلم يعرفوا أين يصنفوا هذه الأصناف من الناس ؟ هل يعدوهم من المتدينين لممارستهم العبادات الشعائرية أو من غير المتدينين لتصرفاتهم الأخلاقية؟
والحقيقة أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أجاب على هذا السؤال بنفسه. :
أتدرون من المفلس؟ . قالوا : المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ،وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيقعد فيقتص هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه ؛ أخذ من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرح عليه ، ثم طرح في النار.
وهل بعد هذا كلام؟
النص ينص بصراحة أن من لا يتصف بالأخلاق لا يتصف بالتدين. إذا الأخلاق هي أساس الدين لا بل هي أساس العبادات الشعائرية.
ألا تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟؟؟ ألا يطلب الصيام منع النفس عن الشهوات ؟؟ أليس من شروط الحج ألا يتفوه الإنسان بكلام بذئ ولا يجادل أحد رغم وجوده في زحام ثلاث ملايين شخص؟؟؟ أليست الزكاة هي تعاطف إنساني؟؟
ولكن عندما تفصل العبادات عن محتواها تتحول الصلاة إلى حركات رياضية والصيام إلى عذر للشتائم والعصبية والزكاة إلى نوع من الضرائب أما الحج فللوجاهة ولضرورة إضافة لقب الحاج.
نتيجة لهذا الانفصام برز صنفان من الناس:
الصنف الأول يبدو للناس أنه متدين يركز على الأمور الشكلية ولكن معاملته لهم سيئة.
الصنف الثاني: يعامل الناس بأخلاق رائعة ولكن يفصلها عن الدين.
الناس بالتأكيد تفضل التعامل مع الصنف الثاني وليس الأول الذي تنفر منه لأخلاقه السيئة وقد يؤدي هذا النفور إلى النفور من التدين الذي يظهر عليه.
وهكذا ظهرت نظرية أن الأخلاق غير الدين وأنها لا تحتاج للدين.
أتباع هذه النظرية يقولون هل نحتاج إلى نص قرآني ليعلمنا النظافة؟ أو ليعلمنا حسن معاملة الجار؟ وهم بذلك يستشهدون بشعوب أخرى لا تدين بشيء لكنها تتبع هذه الأخلاق.
والحقيقة أن هذه النظرية مغالطة كبيرة لأنها تغض النظر عن التطور الزمني للأخلاق عندنا وعند غيرنا.
عندما نزل القرآن الكريم قبل 1400 سنة أمر بالنظافة وإماطة الأذى عن الطريق في الصحراء الواسعة .
في تلك الفترة وبعدها بقرون طويلة لم تكن فكرة النظافة موجودة في أوروبا التي نتغنى بها اليوم. كان الاستحمام يعتبر خطيئة كبرى وكان القاذورات في كل مكان وقد ذكر في سيرة عدد من الملكات أنهن استحممن مرتين فقط في حياتهم فإذا كان ذلك ينطبق على الملوك فماذا عن الفقراء؟؟
وعندما نص القرآن على عدم معاقبة أحد بذنب غيره كانت تلك فكرة رائدة حيث كان من الشائع أن ينتقم الشخص من جميع عائلة خصمه. وعندما حرم القمار, كان ذلك لأثره المدمر على الشخص وأسرته أخلاقيا" ونفسيا" وهو ما نلمسه اليوم عند مدمني القمار في الشرق والغرب.
إذا كان القرآن الكريم منهج أخلاقي متكامل مع تصرفات النبي عليه الصلاة والسلام وقد وفر علينا مشوار آلاف السنين الذي يجب أن تقطعه البشرية لتطور نفسها وتصل إلى هذا المستوى من الأخلاق.
عندما نذكر أخلاق اليابانيين مثلاً علينا ألا ننسى فظائعهم التي لا تزال شعوب كوريا والصين تطالبهم بالاعتذار عنها.
نأتي إلى مبدأ الثواب والعقاب وهنا أريد أن أسأل الكاتبة هل تعتقد أن الأوربيين مثلاً يمارسون الأخلاق لأنهم أخلاقيون أو لصرامة قوانينهم؟؟ بمعنى لو أتيح له أن يغش ويسرق بدون محاسبة ولا رقيب فهل تعتقدين أنه سيفعلها؟
إذا لم يفعلها فهو إذا يتمتع برقابة داخلية تجعله في غير حاجة إلى الرقابة الخارجية وبالتالي غير متأثر بالمغريات من حوله. هذه الرقابة الداخلية اسمها الضمير .
الآن ما هو الضمير؟؟ الضمير هو شعور بالضيق يصيب النفس البشرية عند ارتكاب أو عند التفكير بارتكاب أي خطأ وسببه الإحساس بمن يراقبه فيخجل من ارتكاب الأخطاء حتى لو لم يرها الناس ويخجل من الحط بقيمة نفسه العزيزة عليه. هنا يظهر ارتباط الأخلاق بالدين فمن نخجل من أن يرانا ونحن نخطئ هو الله سواء كنت متديناً أو لا.
ولكن ليس كل الناس عندهم رقابة داخلية قوبة وبعضهم قد ينهار بزيادة المغريات أو بسوء الظروف فنحن لا نعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة لذلك برزت الحاجة لخط دفاعي ثاني يمنع المجتمع من الانهيار تحت وطأة الجرائم فجاء أولاً مبدأ الثواب لأن النفس تحب وتشتهي ومن لم ينفع معه ذلك جاء مبدأ العقاب لأن النفس تخاف أيضاً.
على أن مبدأ الثواب والعقاب ضروري أيضاً للمثابرة وليس فقط للردع. الوصول إلى القمة سهل ولكن الأصعب هو البقاء عليها وإتباع الأخلاق سهل لكن الأصعب هو المداومة عليها وهذا في كل الأمور. أيضاً مبدأ الثواب والعقاب مبدأ دنيوي فهل يمكن أن تعملي طوال حياتك في مكان لا تترقين فيه ولا يزيد أجرك؟
هل يمكن أن يظل الطالب على همته في الدراسة إذا لم ينل ما يستحقه من تكريم فلو جد الطالب ونجح في كل مواده ثم رأى أن أهله ومدرسيه غير مكترثين وأن نجاحه الباهر لن يترجم لفرصة عمل لائقة فسيفقد همته ويصبح غير مكترث.
لو كان جوابك بالإيجاب فهذا يعني أنك تعيشين في مدينة أفلاطون الخيالية
.الثواب والعقاب هما جناحين للنجاح وقلب النجاح الأخلاق والضمير .