كما الحرب تظهر البشاعة في القلوب، هي أيضا تظهر الجمال الحقيقي، ولو كانت الحرب سببا في ظهوره فهو يظهر نقيا صافيا كمياه نهر جاري ..
دمعة حلوة ودمعة مالحة، اختلطت دموع عينيها بدموع يديها المبلولتين بماء التنظيف ومسحوق الغسيل، إنها الحرب تدور عكس الساعة فيصبح صاحب الرزق أجيرا، وربة البيت صانعة بيدين مبلولتين وطفلة صغيرة لا تعلم متى تركت حلب لتتنفس هواء اللاذقية..
كان منهمكا بالعمل من الصباح حتى غروب الشمس، يعمل حارسا في إحدى الأبنية السكنية، يشعر بالفخر لأنه استطاع أن يحصل على غرفة صغير له ولزوجته فاطمة وابنته ذات الثمانية أشهر بعد أن جردته الحرب من بيته وورشته وعمله وأصدقائه وتركته على قيد الحياة يسمع أخبار بلدته وزوايا حارته من تحت سقف غرفته الصغيرة في اللاذقية..
الشمس حادة فوق رأسه يغسل سيارة (أبو راما) لا يحتاج هذا العمل للكثير كل ما يحتاجه " ليفة صغيرة ومسحوق تنظيف والقليل من الماء"
سمع اسمه فادي .. نظر خلفه إنه أبو راما، خذ هذه لك، مد يده أبو راما وبين أصابعه بيضة.. خذها إنها مقابل غسل السيارة
عادت إلى ذاكرته ورشته في حلب، صوت آلات الخياطة، الأقمشة والعمال، تراقصت دقات قلبه فرحا بهذه الذكرى ورشته الخاصة هو من أسسها واشترى الآلات وجمع العمال وعمل بجد ثلاث سنوات حتى أصبحت ملكا له، لكنه لم يسبق أن أعطى عاملا عنده بيضة مقابل عمل أو حتى نصف عمل؟؟!!
ـ ما بك ؟ سألها
ـ أبو مرام .. سيغادر البناية
ـ ويغادرها هل علي أن أفكر أيضا بمشاكل أبو مرام ؟؟
آه البيضة ، تذكرت .. أقصد الفرشة ، أعارنا الفرشة أبو مرام سيأخذها بالتأكيد عند رحيله .
فادي .. إنه عمر يريد أن أساعد أمه في تنظيف بيتها.
رغم تقدمها بالسن إلا أن أم عمر مازالت تحافظ على نظافة بيتها أخذت فاطمة تفكر " مرتب وأنيق ونظيف رتابته تشبه رتابة حياة أم عمر مع زوجها"
إنه رجل متطلب وملول وكسول يحتاج لمن يخدمه طوال النهار، صوته لم يفارق فاطمة وهي تنظف ، دخلت إلى الحمام كانت السراويل المتسخة تملأ السلة، سألت فاطمة : لماذا كل هذه السراويل المتسخة؟؟
أجابت أم عمر: تقصدين كلاسين أبو عمر؟؟ إنها كلها ليوم واحد، يبدلها على مدار الساعة..
شعرت فاطمة بالخجل أشاحت بوجهها، يبدو أن الحياة قاسية جدا ونيرانها تطال الجميع .
رائحة العفن والرطوبة تملأ المكان، بدأت بترتيب ثيابها التي أكلها العفن وحولها لبقايا ثياب خضراء اللون، نحتاج إلى ما نضع به ثيابنا، وما نأكل عليه، وما نطبخ عليه، نحتاج إلى ما نجلس عليه، تظن أنهم يحتاجون التخلص من الرطوبة والعفونة داخل هذه الغرفة وداخل قلوبهم أيضا.
دلال موظفة بالفرن، لطيفة تحضر لنا كل يوم ربطة من الخبز الساخن وأعطتنا بقايا ألعاب وملابس أبنتها وأعطيناها بقايا ابتساماتنا وشكرنا.
كنا وفادي مرهقين حقا أحزن عندما أراه يجمع أكياس القمامة كنت أظن أنه يتقيأ عند الحاوية كلما حملها.
كنت أظن أن حياتي مع هذا العفن أفضل من حياة أختي وزوجها في مخيمات اللاجئين، رغم برودة الأرض وقساوتها ورغم العفونة والرطوبة ورائحة القمامة، كنا نأكل خبزا ساخا تمده لنا يد نبيلة خيرة أخرجت الحرب كل ما فيها من جمال.
دموع أختي سحقتني وأرهقني سماع قساوة الحياة في المخيمات حتى الحصول على رغيف خبر يحتاج الانتظار لساعات، وحليب الأطفال أيضا، تذكرت عيشه إنها تحتاج الحليب وفادي لا يملك ثمنه، إنه يصلح مروحة أبو محمد لابد أن يعطيه أجرا لابأس به ونشتري الحليب لعيشه.
يعمل بجد ينظف ويحمل الأغراض ويقص أوراق الأشجار ويغسل السيارات ويكنس الرصيف ويجمع القمامة وأيضا يصلح الأدوات الكهربائية ويركبها، لم يكن يظن أنه سيحتاج لخبرته بتصليح الأغراض خارج بيته، تذكر أغراض بيته في حلب لقد دمرت بالكامل كان لديه راديو صغير في الفترة الأخيرة أصبح صوت ضعيفا كان يحتاج لشد محرك الصوت إلى اليمين قليلا ويصبح جيدا، كم تمنى لو استطاع أن يجلبه معه، لقد خسر بيته وسيارته وورشته في حلب ولكن كان ذلك الراديو أعظم خساراته .
تتفتح الأزهار في عينيه كلما تذكر أباه لقد كان سببا لتعلمه كل هذا وكانت الحرب سببا لتطبيقه..
لن يحتاج بعد اليوم لعطف أحدهم، إنه يحتاج فقط أن يجلس في حديقة البناية مع فاطمة ويقول لها: ( كوخ خيتو ما اشتقتي تتمشي بالسبيل؟؟)
https://www.facebook.com/you.write.syrianews