news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
والأطباء يتألمون... بقلم : د. هالة هاني صوفي
syria-news image

أمسكتُ دفترَ ذكرياتي بعد أنْ أخرجته من خزانتي وقد كان ملفوفاً بعناية بقطعة قماش سوداء، قلبّتُ صفحاته وتأمّلتُ كلماته فعادت الحروفُ أمامي صوراً حيّة من جديد، يا الله كيف تعيدُ مصائبُ الحياة وآلامها صناعةَ الإنسان، كيف تقوّم انحرافَ فكره، وتلجم هوى النفس المُردي ...!!


وبدأتُ أقرأ ما كنتُ قد كتبته يوماً من الأيام ..لقد كان مؤلماً حقاً ... فاسمعوا معي ما الذي كتبته أيام شقوتي !!

أريدُ أن أعترف، أريدُ أن ألقي كلّ ما في أعماقي فغثيانُ الضمير شيءٌ فظيع فظيع، إنني أتعذّب أختنق.. أحترق.. دلـّوني كيف أمحو ذنوبي.؟! كيف أكفّن حزني وأدفنه..؟! ربّاه إذا كان هذا هو عذابُ الدنيا الفانية فكيف يكون عذابُ الآخرة الباقية؟ طامة كبرى أن يظلّ الإنسان يحترق بدنس ذنوبه إلى أبد الآبدين.....

كيف ألملم العبارات من بين رماد المأساة ؟؟  كيف أصوغ الكلمات من حروف الشكوى والآهات، إنّ الألم يعتصرني ...!! والنار كلما خبتْ عادتْ من جديد تلتهم كبدي ..!!

لقد قتلتُها بذنوبي ..!! قتلتُ فلذة كبدي..!! قتلتُ أحبّ الناس إلى قلبي... قتلتُ ابنتي الوحيدة ....!!

حلمتُ منذ كنتُ طالباً في كلية الطب بأن أتخصص في الطبّ النسائي، لأنّه أحدُ الإختصاصات التي تجعلك تحصلُ على المال بسرعة، و أنا أعشق المالَ لأنه سيصنع شهرتي و سيشيد قصورَ مجد طالما حلمتُ به فأنا أحبُّ ثالوثَ المال و المجد و الشهرة.

وبالفعل أصبحتُ طبيباً مرموقاً مشهوراً لا بل مشهوراً جداً، وباتَ اسمي على رأس قائمة الأطباء المرموقين في القطر كله، كان يشار إليّ بالبنان و يستشيرونني في كلّ أمر لا يعرفون له حلاً، نعم لقد كنتُ جريئاً في ميدان الطب وأصنعُ كل ما يمكن أن يصنع.

أعماني حبُّ المال والشهرة، أطفأ نورَ بصيرتي وزادني طمعاً، فبدأتُ أُجري عمليات الإجهاض لكلّ واحدةٍ  ترغبُ بها، و لم أكلف نفسي عناءَ السؤال يوماً، من أين؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ كلُّّّّّّّّّّ هذه الأسئلة لم تكن تعنيني، كنتُ أريد المالَ فقط المال لا شيء إلا المال، و كانت الأجورُ التي أطلبها باهظةً جداً، و مع ذلك كُنّ يتحدّرنَ عليّ من كلِّ حَدب وصَوب.

أنا وبكل بساطة قاتلٌ حقيرٌ، أختفي وراءَ لقبي و شهرتي، تزوجتُ وجاءت (شهد) ابنة جميلة عذبة تشبه وردةً بيضاء أثقلها الندى بشهده، ومع ذلك بقيتُ أقتل الأجنّة مهما كانت أعمارهم. و لقد حاولَ زميلي الطبيب عمر أن ينصحني وقد كشفَ في يوم سرّي، وعندما كان يقول زميلي لي: (اتق ِ الله يا شاهر! إنّكَ تقوم بعمليات قتل يعاقب عليها الشرع والقانون)، فأجيبُ بنظرةٍ باردةٍ وابتسامة باهتة، وكنتُ أسخر منه  في أعماقي، أين القانون ليطالني؟! وهل ستفكر مريضةٌ بأنْ تشكوني، ثم ما دخل الشرع فيما يقوم به الطبيب؟

إنني أقومُ بعمل يطلبه الناسُ منّي و لا أرغمهم عليه إنهم أحرار فليفعلوا بأنفسهم مايشاؤون !!

يومها لم أكن أعلم جواباً مفحماً عن حقيقة الحياة، و لا عن أصول التعامل مع ناسها، و لو علمتُ أنَّ الجوابَ سيقسمني و يهدّّّني لتأدّبتُُ وعلمتُ أين حدودي و لكنّّّه الهوى والجهل..

وفي أحد الأيام كنتُ أجهّز مريضةً من أجل عملية الإجهاض، فإذا بالهاتف يرنّّّ بإصرار في غرفة مكتبي الملاصقة لغرفة إجرامي!!  كانت المتحدثةُ زوجتي، كانت تبكي و تقول: تعال يا شاهر الآن... الآن أنا في مشفى (المعافاة)   لقد نقلوا (شهد) إليه إثر حادث سيارة ..... عندما وصلت كانت شهد قد فارقت الحياة   لم يمهلني الزمن كي أراها لآخر مرة .....انطفأتْ شمسُ حياتي... وأظلمَ عمري... وضاع كلُّ شيء .....

هاتوا لي كلّ كلمات حزن العالم، لتصف ما شعرتُ به يومها....... لن تفلحوا في وصف مأساتي.......

بكيتُ، بكيتُ... بكى كياني كله! لم تكن عيوني هي التي تبكي.. كانت كلُّ خليةٍ في جسدي تبكي.. كلُّّ كريّة دم تنوح في شرايني......... 

ذهبتْ شَهد وأخذت معها أحلامي وآمالي، تحطم كلُّ شيء وبلحظة ضاع كل شىء!!!!! 

أكلتْ نارُ المصيبةِ قصورَ مجدي بطرفة عين، وتحولتْ كلُّ أمجادي إلى رمادٍ تذروه الرياح.

ازددتُ بُعداً عن الله بهذه المصيبة، وازددتُ لوعةً وحسرةً وأسى وشقاءً وحولتني حبوبُ المهدئاتِ إلى بقايا إنسان كنتُ ميتاً يمشي بين الأحياء.

ثم فجأة أيقظتني مصيبتي على سؤالٍ عجيبٍ! هل أنا فعلاًًًً السبب في موت (شهد)..؟هل أنا القاتل الحقيقي..؟

هل اقتصّ الله مني.. فأخذ أحبَّ الناس إلى قلبي.. وإذا كان هذا سببَ ما حدثَ فعلاً فأين العدلُ الالهي يا من ترددون: (و لا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى)؟، ما ذنبُ شهد؟ وازددتُ حسرةً وحيرةً، شعورٌ لا يمكنُ أن تَصِفَهُ لأحد .... تشعرُ بهِ وحدكَ ... شعورٌ بين الضياعِ والألمِ، بين التشتتِ والحسرةِ.............. 

وظلَّ صديقي الدكتور عمر يزورني ويجلس معي، يحاورني بهدوء، كنتُ أشعرُ بسَكينةٍ عجيبةٍ عندما يأتي حاملاً معه ابتسامته اللطيفة وملامحَه الرصينة.

 

كان يتحمّل كلّ سخافاتي وأفكاري المنحرفة، وبدأ يقتربُ مني شيئاً فشيئاً، لم أعلم أنّ عمر كان يداوي جروحَ روحي وينيرُ ظلامَ نفسي ويقوِّم انحرافَ فكري.

عرفتُ من عمر أشياءَ كثيرة عن حقيقة الحياة ما كنتُ أعلم عنها، عرفتُ أني كنتُ ظالماً فعلاً، وأنّ الله مع أنه غفورٌ رحيمٌ ولكنهُ عزيزٌ ذو انتقامٍ، يمهلُ ولا يهملُ، وأنّّ قصاصه في الدُنيا قبل الأخرةِ.

قال لي عمر: (قد تعتقد أنّكَ القاتل الحقيقي لشهد، لأنك كنتَ تقتلُ الأجنّةَ الصغارَ، و لاريب أنّ هناك علاقة بين ظلمك للناس وموت ابنتك الوحيدة، ولكن في الحقيقة لم تدفع شهد ثمن ما اقترفته يداك!!!!!

ليس لغزاً ولكن إنّ الذي لا يعرفه معظمُُ الناس أنّ أعمارهم مكتوبة، وأنّ آجالهم محسومة، لا يستطيع أحدٌ أنْ يقدّم منها لحظةً أو يؤخّرها، ولكن تتقاطعُ أحداثُ الحياة بقدرة قاهرة ممن يديرُ كونَه بحكمة فتقعُ أحداثٌ قد لا نجدُ لها جواباً....  إنّ شهداً ماتتْ بأجلها تماماً فقد انتهى عمرها، لكنْ شاءتْ حكمة الله أنْ يكون تقاطع حدث موتها مع خط سَيْر حياتك المنحرف فيكون حدثُ موتها عقوبة لك وزجراً على ما اقترفته يداك.

شفاني الله على يد الطبيب عمر... وأدّبني ولكن بمصيبة.. فأسألوا الله أن يؤدّبكم ليس بمصيبة ولا بمعصية، كان عمر سبباً في تأليف كتابي الكبير: (حكايات للحياة يرويها طبيب) وكان هذا الكتاب سبباً في عودة عشرات الناس إلى ربّهم سريعاً، فقد كان كلامي صادقاً لأنّ كلَّ حرف فيه صَنَعَتْه وبصدق تجربتي المؤلمة في الحياة.

و رُبَّ ألمٍ أعادَ صنعَ الناس من جديد، ونبّههم إلى أمراضِِ قلوبهم..!

2010-12-16
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)