news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
خلص آجار البيت... بقلم : عبد الرحمن حيدر
syria-news image

إنه اليوم الأول من الشهر السابع مجرد يوم آخر في خضم هذه الدنيا فيه سيأتي إلينا البعض وسيرحل عنا البعض الآخر والمسافة بين هذا وذاك تسمى بالحياة لكن بالنسبة لي فإنه لم يكن أبداً مجرد يوم آخر فقد كان آخر يوم آخر يوم لي في منزلي أو الأحرى منزلي الذي استأجرته وتزوجت فيه منذ عامين .


كانت الساعة الثامنة صباحاً وكنت واقفاً أمام الباب وبيدي المفتاح  أخبرت زوجتي والجميع أني ذاهب لتسليم المفتاح لصاحبة المنزل  لكنني كذبت  فالموعد كان الساعة الثامنة مساءً  فتحت الباب للمرة الأخيرة ودخلت  استقبلتني آخر نفحة من عطر الياسمين  ذاك العطر الذي حرصت على أن يظل فواحاً عامين في بيتي  

وقصة عطر الياسمين هذه بدأت في بيت جدي  كنت حينها طفلاً  وكان أبي يصطحبني معه دائماً إلى بيت جدي العاجز  وما أن نصل إلى باب البيت حتى نشعر برائحة الياسمين تملأ المكان .

كانت جدتي تستقبلني بقبلاتها وحضنها الدافئ  وتجلسني قليلاً بجوار جدي ثم تذهب بي إلى المرجوحة  وحيثما نظرت ستجد الياسمين الأبيض الفواح  صدقوني لا يوجد مرجع تاريخي موثوق عندي أكثر من زهرة الياسمين  فكلما قدمتها لجدتي "بعد أن رحل جدي" كانت تشم عطرها ثم تنظر إلى الأفق وتبدأ بالحديث عن الماضي البعيد  عن الماضي السعيد  ربما لم تكن الأحداث التي تحكيها تعني الشيء الكثير بمقاييس عصرنا هذا  لكني كنت أشعر بأمان تلك الأيام  وصدقها وعفويتها وبساطتها.

طافت بي كل هذه الذكريات وأنا أغلق الباب خلفي  وقفت للحظة ثم أغلقت الجوال أيضاً  كنت بأمس الحاجة إلى أن أبقى وحيداً في هذا العالم هذا اليوم  وكنت بحاجة إلى أن أعي واقعاً جديداً عملت كل ما باستطاعتي كي أحيد عنه لكني فشلت  

جلت بناظري في أرجاء البيت الذي كان يضج بالحب وبالحياة منذ أيام  وكيف أصبح خاوياً من أي شيء  ومن كل شيء

انتهى آجار السنة  ولم استطع تدبر آجار سنة أخرى  كيف لي أن أستدين آجار سنة إضافية والديون المتراكمة من أجار هذه السنة لا تزال تستنزف مني عافيتي وكرامتي وأعصابي  تؤرقني في الليل  وتطاردني في النهار  كان لابد من الذي لابد منه  وتركنا المنزل لمالكة المنزل  والملك لله عز وجل  لم استطع إيواء زوجتي وابنتي معي في بيت أهلي "بسبب ضيق المكان" فكان عليها  ولتكتمل سعادتي  أن تعيش هي وابنتي بعيداً عني عند أهلها  كنت أرى هذا اليوم قادماً  اليوم الذي اُغلب فيه وأنا ابن من سجدت له الملائكة على يد وسخ الدنيا.

كان كل أثاث المنزل قد زال عن المنزل  قسم عند أهلي  وقسم عند أهل زوجتي  والباقي تم بيعه  وقفت ذاهلاً  شارداً  مهزوماً  ولا أدري لم شعرت بالبرد  قادتني قدماي لاشعوريا إلى أقدس بقعة كانت موجودة في المنزل  إنها مكان سرير ابنتي الصغيرة والوحيدة مريم  جلست هناك على الأرض  بقيت جالساً قليلاً ثم تمددت  لا يوجد الآن في المنزل سوى الجدران والسكون وحطام رجل

أمسكت خاتم زواجي بين أصابعي ووضعته بسرعة في جيب القميص  لا لشيء سوى أنني شعرت بالدموع المحبوسة تفيض من عيني رغماً عني وأنا منهار وممدد على الأرض  ولم أشأ أن يكون هذا الخاتم الجميل بكل معانيه شاهدا على لحظة ذل كهذه .

أحسست بعقدة الذنب تجلدني وبتأنيب الضمير ينهرني وبأني ظلمت زوجتي معي وأنها كانت تستحق أن تحيا حياة حقيقية أفضل من التي عاشتها معي  وبأني ارتكبت خطاً آخر عندما جعلتها تنجب طفلتنا الصغيرة  وبالمناسبة فقد تعلمت واحترفت مهنة التمثيل في أول سنتين من حياتي الزوجية وللحق إنها مهنة غاية في الصعوبة علي إذ لم أكن أملك الموهبة أو الرغبة  لكن كان علي وقبل أن أدخل المنزل عائدا من العمل أن أغير من ملامح وجهي وتعابيره الغاضبة واليائسة والمتعبة من الغلاء والضجيج والتلوث البيئي والأخلاقي والأمراض الاجتماعية إلى وجه سمح عطوف حنون على زوجة وابنة ليس لهما معيل إلا الله وأنا ولا ذنب لهما فيما يحدث خارج حدود المنزل من أمور لا تخفى على أحد منا .

طبعا أنا لا أتهم نفسي أبدا بأنني لست سمحاً أو عطوفاً أو حنوناً  لكن كلكم تعرفون واختبرتم بشكل شخصي انعكاسات وإسقاطات الحياة العملية على الحياة الأسرية  وكيف حولتنا الحضارة المادية هذه إلى آلات صماء تفتقر إلى المشاعر والإحساس بالآخرين  وكنت أتحاشى أن تنتقل هذه الأمراض إلى منزلي الذي يعبق بالحب والهدوء وعطر الياسمين  فكنت أمثل أني بخير والأمور بخير والغد سيكون أفضل وأفضل  وكانت كافة احتياجات وزوجتي وابنتي مؤمنة وزيادة بفضل من الله  أما احتياجاتي أنا كشاب يحب اقتناء منزله الخاص وسيارة وحاسوب شخصي ودوما على أحدث طرز من الأناقة  فقد سقطت  جميعها بالتقادم وصارت أمورا ثانوية تحتمل التأجيل إلى حياة اخرى  لا أدري إن كان هذا قهر الرجال أم ثمن الاستقامة أم ثمن العيش الحلال أم ابتلاء أم الأربعة معاً .

حمدت الله على ما أنا فيه  قمت وصليت صلاة الشكر موقناً بأني لازلت أملك الكثير وليس المال كل شيء  عدت وتمددت  وبدأت استجمع شتات نفسي  

فجأة جال والداي بخاطري لقد بلغا من الكبر عتيا  كانا ولا زالا من تلك الفئة من الناس التي تحل ضيفاً هادئاً وادعاً على هذه الدنيا ولا يشعر أحد بوجودها  ليس لهم منها إلا قوت يومهم وما يتزودون به لآخرتهم  لم يكونا من ذلك النوع من الضواري أو الذئاب التي تفترس لحوم الآخرين أو تقتات على ابتسامتهم أو أرزاقهم  وهو النوع الذي بات يسود الحياة اليوم  طبعاً لا أقصد الحياة في الغابات البرية  إنما هنا وبيننا  في الغابات الإسمنتية .

من جملة ما علمني والداي في هذه الحياة  ثلاثة أشياء  واحدة منها لآخرتي  والباقي لدنياي  أما لآخرتي فعلماني طاعة الله  وأما لدنياي فعلماني شيئين اثنين لا غنى لأحدهما عن الآخر  وهما كسب الحلال والصبر

أدركت لمَ علماني هذان الأمران سوية  أنت بحاجة إلى صبر عظيم عندما تعرض عليك الدنيا بمحرّماتها وتكون بمتناول يدك فترفضها وتصبر على إغراءاتها وترضى بالكسب الحلال وببيت بالآجار  وتحتاج إلى صبر أعظم عندما تسمع ترهات الناس وألسنتهم اللاذعة ونظرتهم المشفقة والدونية والمستحقرة لك ولما عشت ونشأت عليه وتمسكت به من مبادئ أو ما يسمى اليوم "بمرحبا مبادئ" ومهما نلت من درجات الثقافة أو العلم تبقى في نظر الناس حقيراً ضعيفاً أو غشيماً كما يسمى بلغة ومفهوم اليوم  كرهت هذه الدنيا وعبيدها من أعماق قلبي  بل وحقدت عليها

فجأة تخيلتها أمامي امرأة قبيحة لئيمة غرورة مسعورة  فرحت اخاطبها من وحي معاناتي قائلاً: يا دنيا  يا دنيا  يا دنيا  أما تعبتِ من مطاردتي  ماذا تريدين مني  كلما عرفتك أكثر  كلما كرهتك أكثر  صدقاً إني أكرهك  لوثتني قذارتك  وصمدت أمام مغرياتك  جئت إليك دون أي إرادة مني  وكذلك سأرحل  لكن بين هذا وذاك تقبع معركتي الحقيقية  سأخرج منك إما مهزوماً أو منتصراً  حاولتِ زرع حبك في قلبي وفشلتِ  أظهرتك مفاتنك لتغريني وفشلتِ  والآن ضقتِ علي بما رحبتِ  هل ظننتِ أنك ستنالين مني  اذهبي عني  مغرياتك دنيا  وبهرجك دنيا  وزينتك دنيا  لم يزدني حطامك إلا تعاسة  ولم تزدني صحبتك إلا نفوراً منك  لست المكان الأعز على قلبي  ولست المكان الذي أريد أن أكون فيه  فأنا مستعد لمغادرتك في أي لحظة وبكل سرور  ولن أحزن لفراقك أو لفراق أتباعك  كفاني ما رأيته منكِ من ضيق وكنف  وإن كان أغلب بني البشر قد عبدوا مالك وشهواتك وسجدوا لكِ فاشهدي أني أول المشركين  وهاأنذا أجاهر بكفري ومعصيتي  فأرسلي لي شياطينكِ  أرسلي جنودك وجحافلك  ومارسي علي ما شئت من أنواع العذاب  فأنتِ بالأصل سجني وأنا مسجون فيكِ فأرجوك أدخليني في نارك  فلن أخلد لا هنا ولا هناك  

اختفت تلك المرأة القبيحة من أمامي  وكنت لا أزال على الأرض جالسا  شعرت بشيء من الراحة بعد أن صببت جام غضبي على هذه الدنيا المجنونة  وبدأت أفكر في نفسي  

لقد آن الأوان لأطلق سراح كل ما كان محبوسا في قلبي من كلمات وأمنيات ورغبات محبوسة  تالله إن في قلبي حضارات من الأدب والعطاء ومكارم الأخلاق  لكن دفتي كسرت  وبوصلتي فقدت  وخرائطي بعثرت  وضعت في خضم بحار الدنيا السبع  فتقاذفتني أمواج لئيمة شمطاء  وضربتني أعاصير عاتية هوجاء  وتهت في ظلمات وظلمات  والآن لم يبق لي إلا قبس من نور وجه ربي  يهديني إلى جزر الأمن.

والأمان  آه كم أحن إلى هناك  حيث الأراضي الطاهرة العذراء  هناك دربي  هناك جذوري  هناك أرضي  وإلى هناك أنتمي  هناك أستطيع أن أمطر  هناك أستطيع أن أزهر  هناك أستطيع أن أثمر  هناك تبدأ أيامي التي لم تبدأ بعد  من هناك ستشرق حضاراتي  وسأنشر معلقاتي  وسأصدر دواويني  وسأطبع رواياتي  أنا أرفض القيود  وأرفض أن يكون فكري مكبلاً أو عقلي أو جسدي أو فمي  هناك سأكون كل ما أردت أن أكون  سأكون رجلاً يشار إليه بالبنان  سأكون أديباً  سأكون حراً  وسأكون أنيقاً  هناك سيبدأ زماني  سأكون قصة تروى  وقصيدة تلقى  لن أكتب إلا عن السعادة  ولن أمجد إلا المحبة  هناك سترفرف الحمائم البيضاء فوق داري  وسيكسو الربيع أرضي  هناك  حيث لا برد ولا خوف ولا قهر ولا كآبة  هناك تربتي التي أتوق إليها  وأتوق أن أزرع هناك

أنا لست نرجسياً ولا عنصرياً  لكني لن أقبل أوراق اعتماد أي سفير مرسل إلى هناك  ولن أفتتح أي  سفارة  ولن يرفرف أي علم على أرضي ولا بسماواتي  وهناك  لا يوجد حدود لا لفكري ولا لسياستي ولا لأدبي ولا لسعادتي ولا لخيالي  ولا وجود للمعابر الحدودية  أو حتى نقاط تفتيش  يمكن أن تصادر مني بسمتي أو حلمي أو كلماتي أو عمري أو شبابي  

من أراد أن يسكن أرضي فليأتي  لكني متمسك بشروط سبعة أصدرتها مرسوماً يحمل الرقم واحد  يتحتم على كل من يرغب أن يسكن هناك  في أرضي  أن يكون فقيراً  لأني أشعر بالغربة والبرد عندما أجالس الأغنياء  يجب أن يكون شريفاً  يجب أن يكون عفيفاً  يجب أن يكون محباً للغير  ويجب أن يكون قنوعاً  فلا يوجد ثروات في أرضي ولا مناجم ذهب أو ألماس ولا حتى حقول نفط  يجب أن يكون لائقاً أخلاقياً  فالكلمات النابية ممنوعة  والأصوات العالية ممنوعة  والكذب ممنوع  والغش ممنوع  وإهانة الغير ممنوعة  وأخيرا يجب أن يكون لائقا بدنياً  فلا وجود للمدمنين أو المدخنين أو ما يحط من إنسانية الإنسان على أرضي  

هناك  لن أستورد ثقافات أو منتجات من خارج أرضي  سأكتفي بثقافة أجدادي  وبخبز أمي  لا وجود للآجارات في أرضي  فعش كريماً أيها الإنسان  ولا وجود للمال من أي فئة أو عملة أو نقد  فممنوع إدخال الشرور إلى أرضي  وبالله عليكم  هل بعد المال من فتنة أو شر؟  فو الله إني لأكره المال بنفس القدر الذي أحب فيه مريم  ابنتي وشمسي التي لن تغيب

الآن أعلن اني أطلقت من قلبي سراح كل المحكومين مدى الحياة  من كلمات وأمنيات ورغبات محبوسة  عدت إلى الواقع  ولملمت شتات نفسي  ووقفت على قدماي مجددا  هذه المرة سأذهب لتسليم مفتاح المنزل لمالكته  ومن ثم سأنطلق إلى المجهول  سأبحث عن رزقي الذي أعرف أن نفسي لن تفيض إلى بارئها قبل أن تستوفيه  وأعلم أني سأجده  فقط ادعوا لي بالصبر والتوفيق
 

بألم

عبد الرحمن حيدر

2010-12-26
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)