الغربة فيها كل شيء كبرد الشتاء القارص , لا ملجأ لك من برده سوى دفئ الذكريات , أجمل ما فيها الهروب للوراء ,, الهروب للماضي الدافئ , فيها يبدأ نهارك باكرا و يبدأ ليلك فيها باكرا .
هكذا هي الغربة ؟؟؟؟؟
الغربة كالمرض العضال فجأة تجد نفسك قد تأقلمك معه و مع ألامه وفي كثير من الأحيان تشعر كأنك قد أدمنت هذا المرض و آلمه .
فتأتي كلمة في أغنية لتزيد وجع غربتك و تعود بك لواقع لا مفر منه إنه البعد عن كل ما أحببت ومن أحببت
و نحن الدمشقيون لنا وجع خاص , لا دواء له سوا دمشق , أو كما يحب أهلها أن يكنوها الشام , أجل هي شامة على خد وطننا سوريا , و اعذروني يا أبناء وطننا الحبيب لأن كلامي فقط عن دمشق , و لكن فيها ولدت و فيها تربيت و بمدارسها تعلمت , و من بناتها عشقت و تزوجت , و من خيرات أرضها أكلت , و أرجو من الله أن تكون أخر أيام عمري فيها , لا لشيء و لكن ليكون أخر نفس يدخل صدري من هوائها , سواء كان نقياً أو ملوثاً , أجل إنها دمشق أعز ما تمتلك ذاكرتي ؟؟؟
إنها دمشق بدفء أزقتها , بمآذنها و نداء صلواتها , بأجراس كنائسها , بطير السنونو , بأصوات بائيعيها بأسواقها , و شوارعها المكتظة,, بصحن الفول من أشهر أسواقها ( الميدان ) , بصحن النابلسية من عند أبو عبدو ( باب الجابية ) ,آه و ألف أه يا شام , بسندويشة الفلافل من محل على كيفك بالمزة , بأضرحت أوليائها , حتى مقابرها كأنها جنة النعيم أمام جحيم الغربة .
بجامعها الأموي ,بضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي , و كافة الفاتحين , و ما أروع مقاهيها و نرجيلة العجمي و كاسة االشاي الخمير , و للأمانة حاولت مرارا و تكراراً تدخين النرجيلة العجمي ها هنا , و لكن اكتشفت أن سر إدمانها ليس النرجيلة أو نكهة التنباك العجمي , إنما هي دمشق و عشقها , حتى رائحة الياسمين فيك يا دمشق أذكى و أجمل , في الغربة أبحث عن كل شيء قادم من الوطن , فكلمة صنع في سوريا هنا جميلة جداً , و لها وقعها الدافئ على قلبي , هنا علم بلادي لا يفارق غرفتي , هنا الفضائية السورية أجمل من أي شيء أخر , هنا مسلسل أبو جانتي كأنه من روائع شكسبير , و موسيقاه التصويرية كأنها سيمفونية لبتهوفن ؟؟؟؟
ربما تتسألون لماذا إنها الجولة المجانية بشوارع دمشق , بتصوير بساطة أهلها بأحلامهم البسيطة بجرأتهم على قساوة العيش فيها إلى أخر ذلك..............
ماذا أصف منك يا دمشق يا وجع غربتي و دوائي بأن واحد , كم أحتاج لوصف دمشق سواء من وقت أو ورق أو حتى مفردات , سؤال يدغدغ مخيلتي كثيراً , و ليس بعد طول تفكير , جائني الجواب , أما بالنسبة للوقت فالعمر لا يكفي لوصف جمالها ... و الأوراق؟؟
سيقولون أني دمرت بيئة الكوكب لأني سأحتاج لكل ورق الدنيا , أما المفردات فهي المعضلة الكبرى , ولأنني على يقين بأن التعبير سيخونني بوصف جمالها .
و أخيراً و ليس أخراً , دمشق هي بركة الله بأرضه و هي دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم , و هي منزل سيدنا عيس عليه السلام , و هي مقبرة غزاتها , و هي مأوى كل ضعفاء عالمنا , هي الأم الحنونة لكل لاجئ لها , و هي السيف البتار لكل من يحاول المساس بها أو بأهلها و باقي وطننا الحبيب , هي عدل كل حكامها , و الظالم منهم أحن من الأم على ابنائها .
هي وصية كل المغتربين بالعودة لها حتى بطي الأكفان , دمشق هي لواء الإسلام الخفاق عالياً , دمشق هي أجراس الكنائس كأنه لحن لا تمل من سماعه , هي نزار القباني , و مصطفى العقاد , هي صوت عبد الباسط عبد الصمد بالصباح الباكر لكل عاشق لدينه , هي صوت فيروز ذلك اللحن الخالد , هي مراقد أل البيت , هي طعم المشمش , هي شجرة التوت التي لا تمل الأكل منه , هي صحن الصبارة الممتع , و هي صحن الكرز و عليه قطع الثلج لتبريده .
هي بسطات بائعي الفستق الحلبي , هي قضمة العوجة و حموضة الجانرك التي تصك الأسنان , هي المدفئة في الشتاء و قطع الكستناء عليها , هي عربة الترمس و الفول النابت و البليلة , هي زهر النارنج , هي ثمرة الكباد , هي دالية العنب في كل مكان , هي عرائش الياسمين و الياسمين البلدي , هي كاسة التمر هندي , و باعة العرق سوس بشهر رمضان , هي كل شيء هي عشقي و حياتي و مماتي باختصار هي كلمة واحد تختصر كل ما قيل ((( دمشق ))) .
دمشق هي عائلتي و زوجتي و ضحكات أطفالي و أصدقائي , فيها كل مواعيد الأصدقاء جميلة , و الغريب فيك يا دمشق أننا نقاتل لنغادرك مهاجرين لأرزاقنا , و بعدها نحن شعرائك و أدباءك في غربتنا عنك , نذكرك فتمتزج دموع حرقة الشوق لك مع ابتسامات الذكريات , هذه هي دمشق فهل نحن أهل لنكون دمشقيون ؟؟ أم أننا خناها عندما غادرنها سؤال لا أدري جوابه ؟؟؟؟؟؟
منذر المحايري