كان أول عمل حصلت عليه عند وصولي إلى أبو ظبي قبل أربع سنوات في جزيرة في عرض البحر. وكان من بين النشاطات التي تُنّظم لنا لننسى واقع أننا منفيون في هذا اللامكان، إقامة حفلات تحتفي في كل أسبوع بأحد المطابخ العالمية .
فمثلاً ليلة المطبخ الصيني وليلة المطبخ التايلاندي و"طبعاً" ليلة المطبخ اللبناني! لو كنت أكتب هذه السطور قبل أربع سنوات لما استخدمت كلمة "طبعاً" أبداً لأنني لم أكن لأتخيل وقتها مدى سطوة كلمة "لبنان" كعلامة مميزة.
فيكفي أن تضيف كلمة لبنان إلى الخبز ومحلات البزورات والموالح والأركيلة وحتى البندورة والشاورما، لتصبح تسميتها التجارية "الخبز اللبناني" و"المحمصة اللبنانية" و"الشاورما اللبنانية" و"البندورة اللبنانية"... والنتيجة ستزدهر تجارتك وتنفق بضاعتك في فترة قياسية. والآن جرب استخدام كلمة "السوري" مع هذه المنتجات والنتيجة أنك على الأغلب ستنقلب عن الاسم بعد فترة وتتبنى العلامة التجارية "لبنان" التي عرف أخواننا اللبنانيون كيف يسوقونها ويقدموها إلى العالم على أنها مرتبطة بالجودة و"اللقمة الطيبة".
عندما انتقل عملي إلى دبي لاحقا، اكتشفت أن اللبنانيين ليسوا وحدهم من تنّبهوا إلى أهمية تسويق بلدهم كعلامة مميزة في حد ذاتها قوامها المطبخ المحلي، وأننا لم نخسر مطبخنا لصالح لبنان فقط، بل لدول أخرى أيضاً، فالإمارات مثلاً، والتي تستقبل ملايين الزوار الأجانب سنويا، تقدم عدداً من أطباقنا على أنها من التراث الإماراتي كالشاورما مثلاً (بغض النظر عن أصل الشاورما). ويبدو أننا نحن الوحيدون الذين لم نلتفت لأهمية هذه القضية، فالمغرب مثلا يُسوَّق كوجهة سياحية مرتبطة بالطاجين المغربي والشاي المغربي.
وتركيا التي يسافر الناس إليها لتذوق أطباقها التي كما يعلم الكثيرون تعتبر توأم المطبخ السوري، يقدمون الكباب والشاورما واليالانجي واللحم بعجين على أنها جزء من العلامة المميزة "تركيا". وكذا فعلت إيران "الكباب الإيراني" وتايلاند "المشهورين بإضافة الفاكهة لأطعمتهم" واليابان "السوشي". بل أن معركة المطابخ اتخذت طابعاً خطيرا مع محاولات إسرائيل في السنوات الماضية تسويق بعض الأطباق كالحمص والتبولة على أنها من المطبخ الإسرائيلي (وكأن لديهم مطبخاً أصلاً!).
والأمثلة متعددة ولا تحصر، فتسويق المطبخ المحلي ركيزة أساسية في بناء العلامة المميزة لكل بلد والتي بالمقابل تضمن حمايتها وعدم الاعتداء عليها. وسؤالي الآن ماذا عن المطبخ السوري؟ هل طعامنا مخزٍ لدرجة أنه لا يستحق الاهتمام به وحمايته ووقف نزيفه أم أن الموضوع يحتمل التأجيل؟
إن الخطأ الذي نقع فيه هو إهمالنا للتفاصيل الصغيرة الأساسية، وانشغالنا في إبرام عقود بملايين الدولارات على الفنادق والمنتجعات والملاهي. لكن الواقع يقول أن السواح يختارون المكان الذي سيقضون فيه عطلتهم كما يختارون أي منتج مادي، فالفنادق تسمى "مَرافق" أي أنها ترافق المنتج الأساسي الذي يحمل العلامة المميزة "سوريا" فإذا كان السيّاح لا يرون أن المنتج يقدم لهم قيمة أكثر إغراءً مما تقدمه العلامات المميزة الأخرى: "لبنان" و"تركيا" و"الأردن"، والتي أيضاً تزخر بأفضل المرافق، فلن يأتوا إلينا أبداً.
وإضافة هذه القيمة إلى المنتج "سوريا" ليس صعباً لأننا على الرغم من النزيف الحاد الذي أدى إلى خسارتنا للتبولة والحمص واللحم بعجين لا يزال لدينا مخزون غني. فلنبني "سوريا" كعلامة مميزة ولنبدأ بهذه القيمة: المطبخ.
للحديث بقية.