نحن في الغربة نعيش و نرى و نسمع قصص مريرة و صعبة، و لكن ما حدث مع صديقي كان خاص.
لي صديق من أم الدنيا تعرفت عليه في بلاد الغربة تقريباً من أربع سنوات و كان منذ أن عرفته دائم الحيوية و المزاح والشقاوة كما يقولون عندهم.
وكما العادة كلما تعرفت على شخص من أم الدنيا فمن اللحظة الأولى يبدأ الغزل بالشام و يعبر عن مدى حبه وعشقه لها و دائماً عندما تقول له أنك من سوريا يكون جوابه دول أحسن ناس و الله- مع أن الكثير منهم بدأ يغير من هذه النظرة عندما بدأ يتعامل مع بعض العينات السيئة من مجتمعنا - و هذا الكلام ينطبق على صديقي هذا طبعاً و كلما ذكرت سيرة ه الشام يمدح و يتغنى بها و يطلب مني على سبيل المزاح -كما كنت أظن - بأن أسأل له والدتي بأن تجد له عروساً من هناك وينتهي حديثنا كل مرة بضحك و مزاح و بدون أي جدية و استمر هذا الكلام قرابة السنتين على نفس المنوال.
و ذات يوم قال لي أنني دائماً أقول له بأننا نحن أهل الشام نعرف أسماء العوائل و كل اسم عائلة بأي حي موجودة و ما تاريخ الحي و هكذا فقال إن كنت كذلك فأريد منك أن تسأل لي عن عائلة فلان لأنه تعرف على فتاة سورية في مصر و يريد أن يسأل عنها في بلدها و عن أهلها.
و بالفعل استطعت أن أجمع له بعض المعلومات و التي كانت ايجابية، و الذي زاد حماسه للاستمرار بهذا الاتجاه.
و فيما بعد ذكر لي كيف تعرف عليها حين تعرف على هذه العائلة صدفة في إحدى دوائر الدولة بمصر و هو بطابور المعاملات بانتظار إنهاء معاملة حكومية حيث توجه له شخص قدير و طلب مساعدته و توجيه لإنهاء معاملته أيضاً و هذا ما حصل فعلاً،و من هنا بدأت الصداقة بينهما و تعرف صديقي فيما بعد على عائلة ذلك الشخص و رأى ابنته و التي هي بطلة هذا القصة.
و بعد فترة وجيزة ذهب بإجازة طارئة لمصر كانت هدفها لقائها و لقاء أهلها ليتقدم لها بشكل رسمي و هذا ما حصل و لكن الأب كان متردد جداً و السبب الرئيسي كيف يزوج ابنته لشخص من غير جنسية و اختلاف العادات .....الخ، إلى أن تم القبول المبدئي شفهياً بين الطرفين.
و اتفقا على استمرار التواصل هاتفياً و عن طريق الانترنيت للتعارف بشكل أكبر،و بدأت علاقة حب كبيرة بينهما و بدأا يخططون لحياتهم الزوجية بكافة تفاصيلها.
و فجأة ثار الأب و أخذ قرار لا رجعة فيه و بدون أية مقدمات لابنته و لصديقي بأنه لا يريد أن تتم هذه العلاقة و يجب إنهاؤها فوراً رغم أنف الجميع و بدون أن يعرض الأسباب لا لابنته و لا لصديقي!
و بالفعل انتهت العلاقة و تحول صديقي لإنسان كئيب لا يبتسم عصبي لا تستطيع أن تحاوره و لا تناقشه بأي طريقة مهما كانت دبلوماسية.
و لكن الأخطر و الأسوأ كان على الضفة الثانية حيث بعد مرور عدة شهور على نهاية العلاقة استلم صديقي اتصالاً هاتفياً من سوريا و إذا بفتاة من أقارب حبيبته و قالت له بأن حبيبته بعد الذي حدث جلست لعدة أيام بدون طعام مع بكاء و عزلة و بدون تناول لبعض الأدوية التي كانت تتناولها بسبب مرض الربو الذي كان معها مما أدى لأذية كبيرة في الرئة مما يحتم إجراء عملية جراحية فورية و لكنها ترفض أن تتعالج أو أن تجري هذه العملية.
و هنا بدأ صديقي بالاتصال بها و فرحت كثيراً بذلك و شرع بإقناعها و لكنها كانت خائفة جداً من العملية مع أن جميع الأطباء أكدوا بأن العملية من النوع السهل و التقليدي وبعد محاولات جبارة و متكررة منه إلى أن قررت إجرائها.
و بدأت التحضيرات للعملية و قرروا إجرائها بمصر و عند وصولهم لمطار القاهرة مع أبيها قالت له بالمطار أبي إنني أشعر بأنك سوف تعود وحيدا إلى سوريا!
و قبل إجراء العملية قالت لصديقي أريد منك وعداً لا تخلفه معي، صحيح أن أبي كسر قلبنا و رفض زواجنا و لكن أريد منك وعداً أن تكون زوجي في الجنة!!!!
و تمت العملية و نجحت و بدأت المباركات من كل صوب إلى أن مرت ثلاثة أيام و تعرضت الفتاة لأزمة حادة و التي أدت لوفاتها مباشرة،و كان سبب الوفاة فيروس وبائي نقل إليها من المشفى أثناء وجودها بها.
و بدأت مأساة من نوع أخر فبدأ صديقي يشعر بذنب إقناعه لها بإجراء العملية و حاولت التخفيف و بأن لا ذنب له و هذا قدرها و عليك الإيمان بذلك و لكن دون جدوى.
لقد قال لي صدق أو لا تصدق عندما كنت بالعاشرة من عمري كنت أقول لأمي بأنني سوف أتزوج من فتاة سورية و كانت تضحك و تهزأ مني كلما قلت هذا.....إلى أن جمعتني الصدفة بذلك الرجل لمساعدته لإنهاء معاملته و تعرفت على تلك الفتاة و بدأت أتذكر هل من المعقول أنه سيتحقق حدسي الطفولي ؟.....نعم بالفعل إنه يتحقق .....و لكن أباها دمر هذا الحلم ..... و من ثم أنا من أقنعها بإجراء العملية و سببت وفاتها!
و بدأ صديقي يشرح و يحكي لي معاناتها أثناء مرضها و أنه من شفقته عليها و حبه لها ما جعله يقنعها و يريد أن يقنع نفسه قبل أن يقنعني بأن لا ذنب له....لقد قال لي عبارات كانت ترددها تجرح مشاعر أي إنسان.....كانت تقول له قد وصلت لمرحلة من الألم بأنها أصبحت تستمتع بالألم و تفتقده إذا تأخر عليها!
و لكي يكتمل حزن صديقي و ألمه اتصل بصديقي أحد صديقات المرحومة و أكدت له بأن المرحومة كانت قد تركت رسالة مغلقة له أمانة عند إحدى صديقاتها و ووصيتها كانت بأن تسلم لك إذا لم تعود بعد إجراء العملية وبالفعل وصل صديقي لتلك الفتاة و سألها عن تلك الرسالة و التي أنكرتها في بداية الأمر إلى أن اعترفت بعد فترة بأنها أتلفتها خوفاً عليه من زيادة حزنه و آلامه.
قال لي إن قلبي ينزف دماً و عندما علمت بأن هناك شيئاً منها (الرسالة) قلت لنفسي لعلها تساعده على التخفيف من آلامه و يأتي الغباء بطريقة حسن النية ليمزق الرسالة التي كانت ممكن أن تكون دواء له و لو كان علقماً.
صديقي يتألم....لقد جف الدمع في عينه....لقد أصبح قاسياً قساوة الجبال.....يحاول أن ينسى و لكن؟