news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
نزيف ذاكرة ... بقلم : No name

لقد اعتاد ارتياد ذلك المقهى الذي يقع ضمن شوارع دمشق القديمة, ليأخذ لنفسه طاولة موجودة في آخر الرواق في زاوية منعزلة كالذي يريد الهروب من شيء ما.


يجلس وحيدا يحتسي فنجانا من القهوة, واضعا أمامه كراسة مذكرات صغيرة يكتب عليها ما تبقى من ذاكرة متعبة, تغلف ملامحها الحزن والكآبة, ذاكرة مليئة بآلام الماضي وصرخاته الموجعة.

 

كان في كل يوم يفتح كراسته ليبكي جزءا من ذاكرته واحلامه التي شاء القدر لها أن تكون مجرد أحلام تطوف خياله لتبكيها ذاكرته كلمات صغيرة ترتسم بأنامل اعتادت أن تبكي وتبكي وتبكي. يبكي ذاكرته ظنا منه بأنه يستطيع قتلها بكلمات صغيرة ترتسم على ورقة بيضاء, ورقة يكاد الماضي يشهوها بذكريات موجعة, ذكريات كانت بيوم من الأيام أحلام.

 

بعد أن تعبت ذاكرته من البكاء لملم ما تبقى له من احلام ووضع كراسه في حقيبة سوداء ومشى تاركا خلفه زاوية تتسائل عن سبب هذا الحزن الذي ميز ملامح ذاك الشاب عن غيره.

أخذ يسير في شوارع دمشق تائها, شاردا, تعانق ملامحه لمسة من الكآبة الموجعة المتألقة في عينيه, والمرتسمة بملابسه السوداء.

عاد إلى منزله, داخلا غرفته المهجورة من كل شيء إلا من أنات الماضي, رمى بجسده المنهك على سريره وأخذ يقلب بصره في أرجاء غرفته كالذي يبحث عن شيء يفتقده, أخذ يسترجع شريط ذكرياته الذي بدأ حين التقى بتلك الفتاة التي كانت بداية لحلم ونهاية لذاكرة...

 

التقى بها وسط ضجيج الحياة وزحمتها, كان مسرعا يود الدخول إلى المحاضرة فدخل المكتبة على عجل ليشتري قلما وبعد أن انتهى أدار ظهره مسرعا يود الخروج فاصطدم بفتاة تدخل المكتبة لتوها فأوقعت بعضا من كتبها على الأرض فأخذ الشاب يساعدها بجمع تلك الكتب معتذرا منها على تسرعه وعدم انتباهه لها وناولها الكتب ناظرا في عينيها وكأنه وجد ضالته في سحرهما, مما جعل الفتاة ترتبك وتحمر خجلا وقالت : لا بأس وخرجت مسرعة من المكتبة دون أن تشتري شيء.

 

ذهب الفتى إلى محاضرته وهو مذهول بسحر عينيها اللتين وخلال ثوان قصتا أروع قصة, قصة عجز الكثيرون عن رواية تفاصيلها واحداثها في قصصهم ورواياتهم. فلغة العيون كانت ولا تزال أسمى من أن تكتب وتخط على ورق.

تلك هي المرة الأولى التي أراها في الجامعة!!( يتساءل الشاب بينه وبين نفسه) من هي؟ لماذا هي؟ لماذا في هذا التوقيت بالذات؟  تساؤلات كثيرة داعبت فكره ولكن دون جدوى, فهذه الأسئلة وجدت لكي تكون بدون إجابات.

 

خرج من محاضرته مسرعا متجولا في أرجاء الجامعة باحثا عنها لكي يعتذر منها مرة أخرى على ما حدث في المكتبة, ولكن دون جدوى!! فلم يتمكن من إيجادها, ولكنه كان على أمل اللقاء بها في اليوم التالي.

عاد إلى منزله متفائلا مبتسما, كالذي وجد شيئا كان يبحث عنه منذ زمن طويل, كيف لا ونحن في اللا شعور نبحث عن أشخاص نحبهم ويبادلونا الاحساس نفسه... وهناك من يجد ذلك الشخص وهناك من يقضي عمره كله باحثا عنه ولكن دون جدوى.

 

استيقظ في اليوم التالي باكرا, متنشطا على غير عادته, ارتدى ملابسه وتناول فطوره مسرعا وخرج من المنزل متجها نحو جامعته. وما إن وصل إلى هناك حتى أخذ يجوب أرجاء الجامعة قبل بدء محاضرته الاولى, عله يستطيع أن يلتقي بها, وهاهو يكاد يتأخر عن موعد محاضرته وهو مازال يبحث عنها ولكن دون جدوى. أدار وجهه مسرعا يود الذهاب إلى قاعة المحاضرات بعد أن فقد الأمل بلقائها, فاصطدم مرة أخرى بالفتاة نفسها!! نظر في عينيها والدهشة تملؤهما فابتسم وقال (اعتذر إنها المرة الثانية) فابتسمت قائلة( أأنت دائما هكذا!! على عجلة من أمرك؟) فضحك قائلا (لا لست هكذا دائما و إنما في أغلب الأحيان)

 

ودار بينهما حديث صغير تعارفا فيه على بعضهما. ذلك الحديث الذي لم تكن فيه الكلمات محورا ,حيث كان ينظر إلى عينيها هائما شاردا بسحرهما, تلك العينين اللتان علمتاه العيش بدنيا الأحلام منذ اللحظة الأولى.

مر الوقت سريعا وحان موعد المغادرة, حسنا علي أن أذهب الآن, أراك غدا (نطقت تلك الكلمات بصوت رقيق وكأنها تهمس في أذنيه همسا) فأجابها: حسنا أراك غدا. للفراق طعم مر لا يحليه سوى أمل اللقاء في يوم آخر.

 

عاد كل منهما إلى منزله وهو يفكر بهذه الساعات القليلة كيف ستمضي؟ متى ستشرق شمس يوم جديد لتعلن بداية حديث آخر بلغة لها سحرها الخاص... لغة العيون.

دخل الشاب منزله مرحا متفائلا, على أمل اللقاء بها غدا, دخل غرفته التي أدمن أحزانه فيها وهاهو اليوم يهجر أحزانه فيها أيضا. سحر عينيها ألغى ما كان له من ذاكرة مشتتة تجوب أروقتها أشباح أحزان اعتادت العيش هناك, أحزان أصحبت ماض ليس الا. لكن من الآن فصاعدا ستولد ذاكرة جديدة, ذاكرة لن تجعل للاحزن داخلها مسنكا.

رمى بنفسه على سريره والأحلام تلامس روحه بكل خفة ورقة, وتشدو على مسمعها لحنا افتقدته منذ زمن طويل, تقص لها قصة بطلاها خارج إطار الزمن والواقع, حتى أغمض عينيه وغط في نوم عميق.

 

هاهي شمس الصباح تشرق متسللة من خلال نافذة غرفته, مداعبة فكره باعثة الدفء في جسده وكأنها تتعمد إيقاظه بأسلوب لطيف, فتح عينيه ليوم جديد وحلم جديد وربما لجرح جديد!!!

 

منذ أن التقاها أصح للعمر طعم آخر ولشمس الصباح طعم آخر ولشوارع المدينة شكل آخر, كل شي حوله أصبح شيئا آخر, أصبح أجمل وأروع و أكثر تألقا.

وهكذا أصبحا يلتقيا كل يوم, ويمضيان معظم وقتهما سوية, يتبادلان الاحاديث. وفي يوم من الأيام قررت الفتاة أن تفصح عن ماضيها للشاب الذي لم يكن ليهتم بماض لم يكن موجودا فيه, ولكن وبسبب إصرارها قرر الاستماع اليها حيث بدأ الحديث...

 

-          أريد أن أخبرك عن قصة حدثت معي منذ سنتين ونصف تقريبا... قالت الفتاه.

-          حسنا...

-          لقد أحببت شابا يقطن في نفس الحي الذي أقطن فيه, أحببته كثيرا على الرغم من أننا لم نلتق سوى من بعيد, وكنا نتبادل الحديث عبر الهاتف, ولكنه لم يحبني يوما, ومع ذلك لم أتمكن عن التوقف عن حبه يوما في تلك الأيام.

قاطعها الشاب قائلا

 

-          أكان قلبه متعلقا بفتاة أخرى حتى لم يتمكن من حبك؟ وإن كان كذلك فكيف له أن يستمر بالحديث معك؟ (تساءل الشاب)

-          فأجابته: نعم لقد كان قلبه متعلق بفتاة أخرى وقد تقدم لخطبتها, ومع ذلك لقد استمرينا بتبادل الأحاديث عبر الهاتف, فقد كان يعتبرني بمثابة أخت له.

-          حتى وبعد خطوبته (قال الشاب ذلك وهو متفاجأ)

 

-          نعم وحتى وبعد خطوبته.

-          و هل ما زلت تكلمينه حتى الآن؟

-          كلا فهو الآن متزوج.

-          حسنا, أود أن أسالك: لماذا اخترتي التحدث عن جزء من ماضيكي لشاب لم تلتقيه سوى منذ فترة قصيرة؟ وانا أعلم بأن ماضي الفتاة صندوق مقفل من الصعب فتحه أو الاقتراب منه لأي سبب من الأسباب؟

 

-          حسنا لا أدري لماذا اخترت التحدث عن ماضيي , ولكنني أحببت أن أشاركك إياه لأنني شعرت بنوع من الارتياح اتجاهك, ووجدتك مختلفا عن باقي الشباب

-          ضحك الشاب, ومن ثم قال: أريد أن أسألك, والآن هل يعني لك ذلك الشاب أي شيء؟

-          فأجابته: كلا فهو مجرد ذكرى أصبحت ضمن حقائب الماضي المتواجدة على رفوف الذاكرة, وأعتقد بأنه حب الطفولة كونه الحب الأول في حياتي...

 

لقد كان ذلك الحديث بمثابة بداية جديدة أكثر وضوحا وصراحة وربما أعمق إحساسا.

لم يكن الشاب وخلال سماعه قصة الماضي مرتاحا, بل كان يتمنى لو كان الشخص الأول في حياتها, ولكن الشيء الذي أراحه وطمأنه بعض الشيء هو أن ذلك الشاب أصبح ماض ليس الا, وأن الفتاة بدأت تشعر بنوع من الارتياح اتجاهه ولعله أصبح مصدر ثقة أيضا, ولعل الأيام القادمة ستثبت له ذلك.

بدأت علاقتهما تغدو أعمق وأعمق مع مرور الأيام, كانا يشعران بأنهما قريبان من بعضهما لدرجة كبيرة, وأن هذا التقارب يزداد يوما بعد يوم , ولقاء بعد لقاء, وحديث بعد حديث.

 

إلى أن أتى ذلك اليوم الذي كان فيه القدر يرسم بريشته لوحة مذهلة, كانا يجلسان دون أن ينطقا بكلمة واحدة,و ينظران إلى بعضهما وكأنهما يران بعضهم للمرة الأولى والأخيرة, مدت يدها نحو يده لامسة اياها بمنتهى الرقة وللمرة الأولى, فكان إحساسه أروع من أن يوصف بأحرف صغيرة, ناظرة إلى عينيه قائلة وللمرة الأولى أيضا (ب ح ب ك)

لم تكن العلاقة بحاجة لكلمة من أربع حروف لكي تكتمل أو تصبح أجمل وأعمق ولكن الكلمة عندما تنطقها الشفاه وتغلفها العيون بإحساس رائع, فلا بد أن يكون لها وقع كبير على قلب ذلك الشاب الذي لم يحرك عينيه للحظة واحدة عن عينيها. في ذلك الوقت كانت روحيهما تنسجان في فضاء بعيد أجمل وأروع قصة حب شهدتها مدن الأحلام الضبابية الكامنة وسط الغيوم.

 

أصبحت عجلة الزمن تدور بسرعة في كل لقاء, وكأنها لا تريد لكليهما أن يستمرا مع بعضهما, فتمنيا وفي كل لقاء أن يتوقف الزمن لبرهة, أن يتوقف وينظر إلى جمالهما وهما يرسمان أروع لوحة, لوحة أرضيتها حلم أبيض وألوانها مشاعر وأحاسيس صادقة, نابعة من القلب, عله يرق قلبه فيتوقف ويجعلهما يستمتعان بتلك اللحظات التي قد لا تعود يوما وتصبح سرابا!!!

 

استمرا على هذه الحال, إلا أن القدر كان يعد خيوطا سوداء ليحيك بها ملابس الحزن ليرتديها قلب الشاب ويعلن حدادا قد يطول أمده وقد لا ينتهي.

في يوم من الأيام كان جالسا مع أصدقائه في الجامعة يتناقلان أخبار الدراسة ببعض من الفكاهة, بالإضافة إلى بعض الأحاديث الأخرى, وأذا به يعلم وعن طريق الصدفة من أحد الأشخاص بأن تلك الفتاه لم تتوقف يوما عن حب ذلك الشاب الذي أخبرته عنه سابقا.  

 

ذهل الشاب عندما عرف بالأمر, تناول حقيبته ورحل دون أن ينطق بكلمة.

لم يكن يعلم أين يسير أو إلى أين يذهب, كان تائها وسط موجة من التساؤلات التي كادت أن تفقده صوابه...هل هذا يعني بأنها كانت تخدعني طيلة تلك الفترة؟!! ولكن لماذا أنا؟!! ألم تجد غيري لتخدعه بمشاعر كانت أجمل ما أملك!! وإن كانت كذلك فلماذا بادرت وصارحتني بمشاعرها أولا!! لماذا نقلتني إلى مدن الأحلام لتهدمها بمشاعر وهمية فوق رأسي!! لماذا ولماذا ولماذا؟؟!!!

 

 قادته قدماه نحو منزله وهو يجر جسده المتعب الذي أرهقته التساؤلات, دخل غرفته ملقيا بجسده على سريره وأخذ يبكي ويبكي كالطفل الذي فقد والدته وهو بأمس الحاجة إليها.

كيف لا يبكي و قد فقد أجمل ما يملك, مشاعر وأحاسيس صادقة. كيف لا يبكي وقد كان على قناعة تامة بأنه وجد حلمه الذي تعثر به وسط زحمة الحياة؟!!. كيف لا يبكي وقد كان متأكدا من أنها لا تفكر بسواه؟!! ثم ليجد نفسه أنه آخر من يمكن أن تفكر فيه؟!! كيف لا يبكي وهو لم يكن يريد أن يخسرها لأي سبب من الأسباب؟!! كيف لا يبكي وقد تمنى الموت ألف مرة على أن لا يسمع ما سمعه؟!!

كان في كل ليلة يرمي برأسه المثقل بالهموم والآلام على وسادة أدمنت دموعه, ليبكي حبا طاهرا, حبا لامس روحه وسكن قلبه. 

 

وبعد أن أمضى العديد من الليالي في حزن وكآبة شديدين قرر أخيرا الانسحاب من حياتها وبكل هدوء لكي لا يكون مصدر عبئ على مشاعرها نحو حبها الأول الذي لم تستطيع نسيانه في يوم من الأيام. قرر الانسحاب من حياة لم يكون هو محورها, من قصة لم يكن هو بطلها, قرر الانسحاب من حياتها دون أن يلومها على أي شيء, فلعلها أحبته ولكن حبها للماضي كان أقوى وأكثر إخلاصا. قرر الانسحاب من حياتها لتبقي حبا لن يستطيع القلب نسيانه و جرحا في ذاكرة أرهقتها الجروح, ذاكرة ستعتاد نزيف جرح مؤلم.

2011-02-19
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)