عندما كنت على مقاعد الدراسة الجامعية قبل حوالي اثنتي عشرة سنة أذكر جيداً أن عدداً من مدرسينا حذرونا وطلبوا منا الابتعاد عن لغة الخشب في كتاباتنا مستقبلاً لأنها تقبع في واد
بينما الكتابة الصحفية تحط رحالها في واد آخر، حيث تتسم الأخيرة بالبساطة والوضوح والسلاسة وتتوجه إلى كل المستويات الثقافية وليس إلى فئة محدودة بعينها .
أما لغة الخشب فهي تقوم على استعمال جمل وعبارات وألفاظ دون أن يستطيع القارئ بمختلف درجاته أن يأخذ منها شيئاً مفيداً ومفهوماً، إذ تتحول إلى كونها لا تعدو مجرد رصف للكلمات وحشر لها دون وجود رابط أو تناسق منطقي أو معرفي بينها، وقد يلجأ الكاتب إلى استعمال عبارات معجمية معقدة تجعل القارئ بحاجة ماسة إلى أن يمسك بيده معجماً للشرح والتفسير أولاً بأول حتى يتمكن من فهم اليسير مما يقصده الكاتب؟! .
وقتها انتابني والعديد من زملائي بعض الاستغراب من تركيز أساتذتنا على هذا الأمر، وحملتهم الشرسة وهجومهم اللاذع على لغة الخشب، لكن وبعد أن انخرطت في العمل المهني أيقنت كم كانوا محقين وغير متجنين على تلك اللغة ومن يخوضون غمارها ويرفعون لواءها.. حيث تجد بعض الصحفيين والكتاب والفنانين التشكيليين يطبقونها في مقالاتهم وكتاباتهم النثرية والشعرية والروائية ولوحاتهم.. إلخ.
كما ترى أمثلة على ذلك عندما تقرأ لأحدهم قراءة نقدية لمعرض أو لوحة فنية أو عمل أدبي .. ولن تستطيع أن تهتدي إلى سبيل لفهم ما يريد الكاتب سواء باستنهاضك كل ملكاتك اللغوية والفكرية والمعرفية، أو حتى باستعانتك بخبرات زميل أو صديق .. مما يطرح لديك تساؤلاً ملحاً : لمن توجه هذه الكتابة؟ وهل المقصود منها أن يتم فهمها واستيعاب مراميها، أم أن الكاتب همه الأوحد أن تبقى غامضة أشبه بطلاسم وألغاز غير قابلة للحل حتى ربما على يديه هو ذاته؟!.
كما تتساءل فيما إذا كان هذا الكاتب يجد متعة ونشوة عارمة وإحساساً عميقاً بتحقيق الغلبة والنصر الساحق عندما لا يستطيع معظم القراء أو ربما جميعهم فهم ما يرمي إليه؟!.
وكيلا يظنني البعض متحاملاً ـ لا سمح الله ـ على هؤلاء الكتاب سأحاول أن ألتمس لهم عذراً متسائلاً: هل يلجؤون إلى الغموض المفرط كمحاولة للهروب والتحايل على مقص الرقيب في هذه المؤسسة أو تلك الجهة، كيلا يكتشف حقيقة الفكرة التي يريدون إيصالها والتي لا يمكن أن يتم تمريرها ـ حسب اعتقادهم ـ لسبب أو لآخر إذا ما طرحت بشكل مباشر وواضح ؟!.
غير أنني أسمح لنفسي بالرد على هذا السؤال بالإشارة إلى أن من أهم صفات الكاتب الجرأة والشجاعة وليس الهروب والجبن والتحايل، لذلك لا مناص أمامه - باعتقادي - سوى عرض ما يجول في مخيلته بطريقة مفهومة لأوسع شريحة ممكنة، وإذا كان لابد من الغموض فلا بأس بالقليل منه شريطة أن يكون بدرجة معقولة تحفز وتنشط خيال وفكر القارئ على تذوق تلك الكتابات والتقاط ما تتضمنه من دلالات وصور موحية متعددة. هي دعوة للابتعاد عن لغة الخشب والمغالاة في الغموض أتمنى أن تلقى استجابة من أجل ألا يجد كاتبها نفسه في برج عاجي بعيد عن القراء بمسافات شاسعة لا يستطيعون إلى تقريبها أو تداركها سبيلاً !!.