البُراز .. لا تشمئز .. أنتَ لا تعرف عن هذا الشيء أكثر من ذلك الشاب ..
ثلاث سنوات من العمل في مراحيض أحد المطاعم الفاخرة صَنعت منه خبيراً في مجال البُراز .. ولأن معظم الأكابر لا يعرفون تنظيف برازهم المتطاير على زوايا حوض المرحاض فقد أصبحت مهمته في منتهى القرف .. كثيراً ما كان يجد في أحواض المراحيض قطعاً ثمينة أو حتى جواهر أو نقود .. ببساطة يمد يده وينتشلها .. الموضوع بالنسبة له أمر عادي .
وقف أمام المرآة عند المغاسل ينظر إلى أسنانه النظيفة واللامعة كالبورسلان الأبيض .. الموسيقى التي تُوضع في المراحيض تجعل الحياة ممتعة وسهلة .. خيالٌ مرّ من ورائه كلمح البصر .. أحسّ برهبةٍ في داخله .. توجهَ نحو المراحيض وفتح معظم الأبواب لكن لا أحد في الداخل .. إنه الباب الأخير .. توجّه نحوه بخوف .. بلعَ ريقه .. أخذ يفتح الباب ببطء وحذر .. وإذ بخرطوم الماء الموجه نحو وجهه يبللهُ ويثير ذعره .. إنه ابن صاحب المطعم المُدلل يبادله المزاح .. كثيراً ما كان يخبره أن لا يمزح معه بهذه الطريقة .. وكان مُدلّلنا صاحب العشر سنوات يجيبه بكلمات مقرفة من صُلب عمله .
ولكن في هذه المرة طاف غضبه .. قرر أن يخبر مدير المطعم المُهيمن على نفوس جميع العمال والقابض على أرواح الضعفاء ..
الطريق إلى مكتب المدير مليئة بألغام التردد .. نقر نقرتين خفيفتين بسبابته وفتح الباب .. كان مُدللنا يجلس في حضن المدير ويَلكمُ وجهه .. إن هذا المشهد زرع في نفسه عدة قناعات جعلته يُبعد شكواه عن رأسه .. تحجج بأنه يريد إجازة ليومين .
- عُـد إلى عملك ..
رفض المدير طلب الإجازة .. وهدده بالخصم من راتبه إذا فكر أن يترك المراحيض ويأتي إلى قداسة مكتبه مرة أخرى .. عاد مسرعاً إلى مراحيضه فوجد أحد الزبائن ممغوصاً ويستفرغ في حوض المغسلة .. بادر بمناولته المحارم .. تشكّره الزبون وأخبره أنه أكل الكثير من الطعام وأصيب بالتُخمة .. وأعطاه ألف ليرة سورية ليصرفها له .. وعندما صرفها وعاد .. وضعها الزبون في جيبه وأخرج عشر ليرات وقذفها في حوض المغسلة وخرج .. شعر بالفرح في داخله لأنه قد جمع اليوم ثمن خبزه .. رشّ القليل من " مُلطف الجو " لتزول الروائح من المكان .
زميله أخبره أن يتبعهُ فهنالك صحن" مشاوي " مُرتجع .. أي أنه زائد من إحدى الطاولات .. جلسا في ممر العمال المُظلم يتناولان صيدهما الشهي .. ومن بعيد يطلّ أبو مرعي كالثعلب المُتلصص .. وأبو مرعي مشهور ببراغيه ذات المفعول القوي .. أبو مرعي ينظر إليهما نظرة حقيرة بعض الشيء .. وخبيثة بعض الشيء .. والأهم أنها نظرة وعيد .. توقف الجائعان عن الطعام ورحلا مسرعين بعد أن وضعا في فمِ كل واحد منهما لقمة كبيرة جداً .. المراحيض كانت خالية ولكن الماء كان يتدفق بقوة من أحد الخراطيم الذي فُـكّـتْ عزقتُهُ بفعل فاعل .. ركض مذعوراً إلى الخرطوم محاولاً إيقاف تدفق الماء .
اللقمة في فمه ما زالـت كبـيرة وعصـيّة على المضغ .. المدير الغاضـب أصبح وراءه بفعل " البرغي " .. إنه يركله بمقدمة حذائه الرفيع .. يبصقُ عليه .. يشتمه .. يؤنبهُ على تركه للمراحيض .. اللقمة لا تُمضَغ .. والماء ينطلق كالرصاص على وجهه مُخفياً دموعه النازلة من عينيه المتعبتين .. تذكر أمّه المريضة .. تذكر أخوته الصغار .. بلع لقمته الكبيرة بألم .. بلعها وابتسم .
صوتُ المدير مازال يهزّ أرجاء المكان كلما فكّر الخروج خارج حدود المراحيض .