بعد طول انتظار ليس بمبرأ ولا مبرر، ومنذ بضعة شهور، أصدر وزير التربية السوري قراراً يهدف إلى تنظيم عمل المؤسسات التعليمية الخاصة،
وذلك ضمن سياق إحداث إصلاحات جديدة في النظام التعليمي دون الجامعي، هذا النظام الذي يعاني من مشكلات كبيرة صارت تهدد العملية التربوية في سوريا برمتها.
في سوريا نظام تعليمي دون جامعي بعدة قطاعات، قطاع حكومي تتكفل به الدولة يشمل التعليم النظامي الذي يتبع وزارة التربية في كل شؤونه، ويشمل أيضاً التعليم الديني الذي يتبع لوزارة الأوقاف، كذلك الأمر بالنسبة للتعليم المهني الذي يلحق بالوزارات المختصة كوزارة الصناعة مثلاً.
وهناك أيضاً القطاع الخاص الذي تماثل مدارسه مدارس وزارة التربية وتشاركها في المناهج وتكون خاضعة للإشراف المباشر من مديريات التربية في المحافظات.
بين القطاعين العام والخاص هناك قطاع فوضوي يحاول أن ينسب نفسه إلى القطاع الخاص وهو عن ذلك بعيد كبعده عن صفة التعليم بالمعنى الذي ينبغي أن يكون عليه أي تعليم وطني في عصرنا، ويتكون من عدد هائل جداً من بيوتات التعليم غير المرخصة، وغير خاضعة لإشراف الدولة أو رقابتها وهي ليست أكثر من دكاكين كبيرة تقدم الدروس الخصوصية بتكلفة أقل وعدد أكبر، ويتكون سوق العمل فيها من طلاب ومدرسين هم في أغلبهم طلاب المدارس الحكومية ومدرسوها. وتنتشر هذه البيوتات التي تسمي نفسها معاهداً في كافة المدن والبلدات والقرى السورية، أسعار دُروسِها في الأحياء الفقيرة زهيدة، لكن بالمقارنة مع الأسعار في الأحياء الغنية.
أما المدرسون الذين يعملون فيها فقد تحولت أسماؤهم إلى علامات تجارية فارقة، وصارت تزين اللافتات التجارية أو المربعات الإعلانية التي تدعو الطلبة إلى النجاح والتفوق والتميز.
ناهيك عن جوائز التفوق، كأجهزة الكمبيوتر للطلاب الأوائل، ثم الرحلات السياحية، ومع اشتداد المنافسة كانت السيارة هي هدية المتفوق الأول في أحد هذه الدكاكين التي يظن أصحابها أنها معاقل التعليم الرصينة وهم يغمزون ويلمزون من جانب التعليم النظامي الذي تشرف عليه الدولة.
جاء قرار الوزير ليمنع المعاهد غير المرخصة من مزاولة أي نشاط تعليمي. ويمنع المعاهد المرخصة من مزاولة تعليم منهاج وزارة التربية، وحصر نشاطها في تعليم اللغات تحت فئة المخابر اللغوية.
وحيث أنه يوجد مرسوم جمهوري سابق يسمح لهذه المعاهد بتدريس منهاج الشهادتين الإعدادية والثانوية، فقد هبّ أصحاب المكاتب والمعاهد يستنصرون بالمرسوم الجمهوري لإبطال قرار الوزير الذي يتعارض مع المرسوم، ولكن ذلك كان يستوجب أن يقوم أصحاب هذه المعاهد والمكاتب باستصدار التراخيص اللازمة لمزاولة عملهم بشكل يتوافق مع القوانين النافذة.
لذلك شهدت فترة ما بعد قرار الوزير عدداً كبيراً من طلبات الترخيص. وحيث أنه لا يوجد إحصائيات دقيقة حول عدد المعاهد المرخصة والأخرى غير المرخصة، يفيد ما هو متداول من معلومات أن عدد المعاهد المرخصة لا يتجاوز نسبة خمسة عشر بالمائة من المعاهد، أكثرها في دمشق. بينما تشاع معلومات أخرى أنه يوجد في مدينة حلب لوحدها حوالي ألفي مكتب تعليمي غير مرخص.
ومن ناحية اقتصادية، لو نظمت هذه المعاهد وسجلت في مديريات المالية، فإن حجم الضرائب والرسوم السنوية التي يتوجب على أصحاب المعاهد دفعها للدولة سوف يقارب العشرة مليارات ليرة سورية.
ومع ذلك، لم يكن الهدف الرئيس من القرار الوزاري هو تسوية الوضع المالي لهذه المعاهد رغم أهمية وضرورة هذا الأمر، ولم يكن خافياً على كل متبصر أنه ثمة غاية سياسية من وراء هذا القرار تهدف إلى إعادة التعليم الرسمي (الوطني) إلى عباءة الدولة، وهذا ما يفسره، ويؤكده في الوقت ذاته، صدور المرسوم الجمهوري رقم 35 لعام 2010 بعد فترة وجيزة من قرار الوزير، يتضمن إعادة تنظيم عمل هذه المعاهد وحصر نشاطها في عمل المخابر اللغوية، أما الدورات التعليمية فتنتقل إلى إشراف وزارة التربية مع منع أي جهة أخرى من افتتاح دورات تعليمية خاصة بها.
وبذلك تضمن المرسوم الجديد إلغاء كل مادة سابقة تخالفه، خاصة ما تضمنه المرسوم الجمهوري رقم 55 للعام 2004 الذي كان يسمح للمخابر اللغوية بافتتاح دورات تعليمية للمواد المقررة في مدارس وزارة التربية.
رغم أن الدروس الخاصة ظاهرة موجودة في كل دول العالم، ومنها سوريا، إلا أنه صار واضحاً في السنوات العشر الأخيرة أن هذه الظاهرة تحولت في سوريا تحولاً نوعياً كبيراً أوشك أن يقضي على التعليم الحكومي برمته، ولا ينكر أحد من الذين يعملون فيها أن بدايات التحول بدأت عندما قام مستخدمو المدارس (الأُذّان أو الفراشون) بتوفير أماكن للقاء المدرسين بالطلاب، وتنظيم المواعيد وترتيب الأمور المالية وتحصيصها بين رسوم الطلاب وأجور المدرسين، ثم إسقاط الفائض منها ليتحول ربحاً بدأ بسيطاً وانتهى وفيراً، حتى صار من هو مستخدم المدرسة أو الساعي فيها صباحاً مديراً في المساء يضع خطة التعليم ويباشر بنفسه عملية تقييم المدرسين ودراسة المشكلات ووضع الحلول.
لن يدرك الصورة الحقيقية لهذه الحالة إلا من خبر هذا النشاط الذي بقي لفترة طويلة بعيداً عن رقابة الدولة، وأنا ممن دخله في يوم ما بتجربة قصيرة خرجت منها بفشل ذريع ومشاهدات هي في أفضل حالاتها ليست جيدة ولا حتى مقبولة، فناهيك إذن عن الحالات السيئة منها.
من هذه المشاهدات أنك إذا سألت أحد طلاب الشهادة الثانوية العامة (البكلوريا) أين تدرس؟ فالجواب الطبيعي هو في معهد فلان أو عند فلان، إلا إذا حددت له السؤال عن المدرسة التي هو مسجل فيها، فيذكرها متذكراً في بعض الحالات أن آخر عهده بها كان منذ نهاية الفصل الأول.
أما المدرس الذي يعمل في معاهد الظل هذه فهو ذلك الأستاذ النشيط الذي يخرج من منزله ليكون في مدرسته في الثامنة صباحاً، ثم يخرج من مدرسته في الظهيرة ليطوف على المكاتب الموزعة في مركز المدينة وأطرافها حتى التاسعة مساء، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الدروس الخاصة في المنازل ليعود إلى بيته حوالي منتصف الليل، وليس هذا الأمر لجميع المدرسين بل للمبرزين منهم الذين لا يجدوا وقتاً فارغاً لتناول غدائهم فيسعفون أنفسهم بسندويشة في الوقت المستقطع بين شوطين تعليميين، ربما في المواصلات أو سيراً على القدمين أو جلوساً في المكتب بانتظار مجموعة طلاب تتلو المجموعة التي انتهى درسها.
أما قبل الامتحانات مباشرة، وفي ذروة الموسم، ومع شبه توقف الدوام في المدارس فليس غريباً أن يبدأ معلمو الخاص دروسهم في السادسة أو الخامسة صباحاً، وأحياناً في الرابعة.
أما الطالب فهو ليس أفضل حالاً في ظل هذه الفوضى التعليمية التي شملته كما شملت أستاذه، فحياته موزعة بين المدرسة الحكومية والمكتب الخاص، ولأنه لا يعول على المدرسة ما يعول على المكتب، صارت ساعاته المدرسية فترات للاستجمام والترويح عن النفس واللعب بعد أن سرقت الدروس الخصوصية بقية يومه.
أما صورة المدرسة في وعيه فيطول الحديث عنها إذا أردنا التفصيل فيه، ولكن يكفي والحال كذلك، ما صار شائعاً من مشاعر العدائية والاستخفاف بكل ما هو مدرسي، وثمة كثير من الحوادث التي توضح هذه العدائية سواء نحو البناء المدرسي أو ممتلكاته، أو نحو المدرسين الذين تحولوا في المدرسة إلى معلمين احتياطيين يستغنى عنهم بمعلمي ما بعد الظهيرة.
هذا التعليم الفوضوي تقوم به معاهد لا ترقى إلى درجة الكتاتيب أيام زمان، لا يتوفر فيها مناخ صحي مناسب، ولا بيئة تعليمية، ولا وسائل ولا انضباط، المدرسون فيها يدخنون على رأس عملهم في علب تسمى قاعات تدريس.
ومعيار نجاحهم هو الوسامة واللطف مع الطالبات، وخفة الدم وأن يكون (شيخ الشباب) مع الطلاب.
وتقوم على هامش هذه المؤسسات التي انتشرت كالسرطان في جسد التعليم نشاطات اجتماعية متنوعة، رحلات ترفيهية خاصة نكاية برحلات المدارس التي انتهت، وجمعيات مالية واقتصادية، ومشاريع وتجارة وشراء منازل.
ولست مبالغاً أبداً إذا أضفت الزواج وتكوين الأسر، إذ أن أربعة مدرسين ممن أعرف تزوجوا بطالباتهم، وكل طالبة بأستاذها معجبة، لكنهن لسن أبداً طالباتهم اللواتي في المدرسة، بل في المعهد أو مكتب التدريس.
بعض المدرسين وجد في التعليم في مدارس الدولة عائقاً يقف أمامه ويعطله عن دروس الطلاب الأحرار (غير المنتسبين إلى المدرسة) فطلق الوظيفة وقدم استقالته ليفرغ كل ساعات يومه للدروس الخاصة، فانقطع عن كل خطط الوزارة في التطوير والتدريب ومواكبة ما يستجد.
بعضهم يعمل أكثر من خمسة عشر ساعة، فنسي أنه رب عائلة وتناسى مبدأ تطوير ذاته كمعلم ومرب حتى صار مبلغ علمه في حدود المنهاج الذي يدرسه، والفارق بينه وبين طالبه أن الأول أقدر من الثاني على تحصيل العلامة التامة في الامتحان، وأحيانا لا يكون قادراً.
والمفارقة أن هذا المعلم لا ينثني في كل مناسبة عن إبداء رأيه في سوء المناهج وقدمه وتركيزه عن الكم دون الكيف وعدم مناسبته لأعمار الطلاب. ولما سألت مدرس فلسفة عن فكرة تطوير المنهاج أعرب عن أمنياته بألا تتحقق، فالمنهاج صعب والطالب كسول والدروس الخصوصية مربحة. هذا المدرس كان معلماً أولاً بخبرة تجاوزت العشرين عاما!
مع صدور قرار الوزير لمكافحة هذه الظاهرة، ارتفعت الأصوات من كل صاحب معهد ومن جميع المدرسين إلا فئة قليلة، مؤكدين على سلامة عملهم وأهميته وجدواه في ردف التعليم الحكومي، وهبوا يجمعون أرقاماً وهمية ويقدرون نسباً عالية للنجاح الذي يحرزونه وهم يحاولون خلع ما تبقى من ورق التوت الذي كان ما يزال يستر التعليم الحكومي، معتبرين أنفسهم رسل إنقاذ جاؤوا ليسعفوا الحكومة ويقوموا مقامها في تربية النشء وإعداد الجيل.
جيَّش المستفيدون من هذه الظاهرة آراء أولياء أمور الطلاب وأهاليهم الذين صاروا يحسبون درجات أولادهم بالدراهم التي يدفعونها، وهم واثقون من لا جدوى التعليم الحكومي أمام تفشي الظاهرة وقناعة الطلاب أن معلم المدرسة (لا يطرب).
ثم جمع الجميع أنفسهم وطرقوا باب الصحافة والإعلام في الجريدة والإذاعة والتلفزيون، وهم يطالبون بمناظرات علنية مع الوزارة كي يثنوها عن قرارها الذي أقل ما يصفونه بأنه جائر سيكون سبباً لتدني التعليم في سوريا، دون أن يعي أصدقاؤنا، ومن الواجب عليهم أن يعوا، أن التعليم هو تحت كل الحالات، وفي أسوأ الظروف، مهمة تختص بها الدولة بامتياز.
التعليم مهمة الدولة، ومهما بلغت الأخطاء والسلبيات والعثرات، فلا يمكن إصلاحها بخطأ أكبر وأعظم، يؤدي إلى رفع يد الدولة عنه، فلقد تحول المدرس نتيجة ذلك إلى محفّظ، وتحول الطالب إلى عداء ماراتون أو لاعب قوى، بالمزيد من التدريب والمزيد من النشاط (والمزيد من الحفظ) كمن هو داخل حلبة سباق.
وصار كل من المدرس والطالب (كجبهة خير) تتصدى للمنهاج (الشرير) وتحاول أن تقتنص منه الإجابات التي تأتي بالدرجات يوم ورقة الامتحان، فالحذف والتوقع والملخصات والمصغرات وطرق التكرار وبنك المعلومات صارت جميعها الغاية الأساسية من العملية التربوية، وصار الكتاب الرسمي عالة على إفهام الدارسين والمدرسين، والخطوة الأولى هي أن يلقوه خلف ظهورهم، ليستبدلوا به كراسات ركيكة تتبارى في الاختصار والاقتصاد، بعيداً عن عيون الموجهين والمرشدين والمراقبين ومختبري الجودة، حتى أصبحت الدروس باقة متناثرة من المعلومات والطلاسم المطلوب حفظها دون أي اتساق أو ترتيب. ولم يعد إعداد الطالب للمستقبل، وتجهيزه بطرق التفكير الصحيحة، وتزويده بالأسس الضرورية التي لا بد منها للدخول إلى عالم الحياة العملية، لم تعد هذه الأمور كلها واردة في دكاكين التعليم الكالحة هذه فانتشرت أمية بين الشباب أخطر من أمية الكبار، لأنها مزدانة بشهادات براقة وجهل مركب.
تتحمل الوزارة جزءاً غير هين من واقع تردي التعليم في سوريا، لكنه يبقى محصوراً ومحدداً.
وتبقى مشكلاته واضحة ومعلنة قريبة من كل من يطلبها، ولن يخف على كل من يريد إصلاح التعليم الحكومي في سوريا أن الخطوة الأولى لهذا الإصلاح أن تعود هذه المدارس لمزاولة عملها، كشرط ضروري رغم أنه غير كاف، إلا أنه لا بد منه.
أما ما أحدثته مؤسسات التعليم الفوضوي التي تعمل في الظلام فهو الأخطر والأكبر، ولأنه لا محاسبة ولا مراقبة، فمثل هذه المؤسسات كمثل قاتل القتيل وأول الآخذين بالعزاء، فهي تمعن في الإضرار ثم تتنكر منه وتلصقه بالمنهاج والمدرسة والإدارات والوزارة. وما زالت الأخطاء تكبر وتكبر حتى غطت على العيون فلم تعد تُرى.
جاءت الحلول متأخرة، لكن تأخرها زاد في أهميتها والإلحاح على ضرورتها، وإذا كان الجميع يتحمل مسؤولية هذا الواقع المتردي، من أساتذة ومسئولين وطلاب وأولياء أمور، فهذا يعني أن لا أحد بعينه ولا جماعة بحصرها تتحمله من الناحية القانونية، لكننا جميعا مسئولون من ناحية الوجدان والمحاسبة الذاتية، وآثمون بحق جيل سيرهق نفسه ويرهقنا في السنوات المقبلة.