news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
رحلت ... مع الغروب ... بقلم : ماجد محمد

وداعها كان صلوات تصدح بقراءة لتاريخ مثقل بالآلام والآهات..


مع استعراض لصور لطالما رافقتني في سويعات النوم المسروقة من ساعات الليل والنهار.

كان وداعها تسطيرا لملحمة بدأت مع خيالات ادراك الصور لدى طفل لم ترتق حواسه بعد..

في ادراكه لجمال الأشياء الجامدة  - كما المتحركة.. 

بروح تحلق عاليا مع كل شهيق يعبق برائحة عطر يتسلل عبر فوح الياسمين الناصع البياض، وبوح الورود الخجلى لبعضها.. عن قصص العشق السرمدي في هذا البستان..

أول زهرة من بستان عائلتي ..

 

رأيتها.. 

برعما يتفتح أمام ناظري بصوتها العذب الشجي وطفولة مفعمة بالحيوية..

وودعتها.. 

بصوت متهدج يدندن:

( سيد الحبايب ياضناي انت...  وكل أملي ومناي انت.. )

* * * * * * * * *

 

سيدة هذا البيت..

كانت تعمل فيه.. مع أم تصارع المرض الذي ظل مكشرا عن أنيابه حتى افترسها ..

وتخفي حزنا على أم  أتعبتها الحياة  ..

 

لتجد نفسها طفلة وأما لأخوتها ( الكبار قبل الصغار ).. وتنسى نفسها في اللعب معهم

-    هي لم تغادر بعد عمر الطفولة واللعب واللهو..

تتشكل بينهم طفلا يحمل على أكتافه هذا البيت بالانابة عن أب كثير السفر .. وأم أنهكها المرض.

وتروي لنا قصص الأميرات من عالم سندريلا الى عالم ليلى والذئب مرورا بعوالم حكايات الأجداد..

ونتسلل معها عبر الحلم الى عوالم ساحرة.. تنتشر فيها البساتين والورود والفراشات والعصافير والطيور، حتى يتسرب الدفء الحالم الى فراشنا فنستيقظ في كل صباح لننطلق برعايتها الى المدرسة.

 

كانت تعيش بين جناحي طائر أسود.. 

مثقل بصخور من التخلف والجهل المعشش في زوايا العقلية الشرقية..  الذكورية، المانحة لنفسها سلطة تقرير مصير كل أنثى ولدت في كنف هذا الطائر الحلكوك.

وتلقي في أحد أعشاشها.. برعما لم يتسنى له بعد أن يرى ضوء النهار.

تدور بها وبنا الأيام لتصبح أما في الخامسة عشر من عمرها..

وتغدو أرملة – بعد وفاة زوجها – وهي في الثانية والعشرين من عمرها .. 

 

لتدخل عالما ذكوريا أشد وطأة، أثقل عليها الأحمال رغم عبء تربية صغيراتها الثلاث والطفل

الرضيع بعد أن امتحنتها السماء بفقدان طفلة قبل أن تفقد زوجها.

وتتوه في ظلمة قرارات سلطة الجهل التي نصّبت نفسها قيّمة عليها..

لما لا..؟!..  وهي الأرملة الشابة..

 تتوه بين..

 

سعيها لسد رمق صغارها وسعيها لاكساء المساحات الحمراء من أجسادهم الطرية وتربيتهم وتعليمهم،

وبين.. قرارات تفرض عليها من جاهل أو مراهق..

صغير أو كبير..

قريب أو بعيد.. ( ممن حولها  )،

لينتشي صاحب القرار بسلطته الذكورية، ظنا منه أنه حام للحمى.

 

تحاول كل ليلة أن تنسى أنها تعيش حقيقة وليس كابوسا، تسعى لتبدل المسميات بين الليل والنهار..

والحلم والحقيقة..

كانت تخفي في أعماقها أنثى .. امرأة ككل النساء ..

لكنها تخاف أن تثور ذات يوم لتكسر كل القيود وتخرج من سجنها، لتجد سجّانها ينتظرها في عالم لا شرقي ولا غربي.. يأكل من أنوثتها دونما اكتراث الا..  لرغباته العفنة.

كانت تهرب من عتمة النهار الى موائد أحلامها التي تمنحها شهي اللحظات مع أطفالها في عالم أخف ثقلا وأقل عتمة.     

 

ها هي اللحظات تعبر الحلم بضوء الأمل الذي يخلج الحواس وينعش الروح ويمد يده الى صدرها 

ليخرج منه حرقة الجمر الذي افترش أضلاعها ، ويمسح على الجراح المدماة حزنا لحالها وحال

أولادها.

بنات ثلاث .. وصبي رضيع

امتحنها الله في كل شيء.. حتى في تجربة موت احدى صغيراتها وهي في السنة الأولى من عمرها.

ضحى..

 

( كانت قد أسمتها ضحى.. )..

ذات العينان الزرقاوان ، والبشرة الحليبية البياض ، والوجه المنير، الذي ينافس وجهي الشمس والقمر، عند اكتمال الثاني وسطوع الأول.

ضحى ماتت من الفقر..

فقراً من كل شيء كان قد رافق حياة والدها..

ماتت لأنها لم تكن تحصل على وجبة طبيعية من الغذاء ، الذي يشبع جسدها الصغير قبل معدتها..

 

وأمها تحفر على خديها مسارا" لدموع الألم والحزن على حال طفلتها الجميلة

كانت ضحى تشعر بآلام أمها ، لذا.. كانت تبادلها بابتسامة..

وتداعب صدر أمها بحركات كمهرج يريد اضحاك من يحب، ليخفف عنه حرقة الجمر الذي اشتعل في روحه.

لم تكن ضحى تأن أو تشتكي ..

لا جوعا .. ولا ألما..

كانت دائما ابتسامتها المشرقة .. لسان حالها يقول : 

 

لا تحزني يا أماه..  انتظريني فأنا راحلة..

راحلة الى عالم سرمدي من الزهور العابقة بريح الجنة..

لأفوح عليك من هناك طيفا..

من عبق الملائكة التي خصصت لاستقبالك على أبواب الجنة.

خصصت لتحملك يا أماه..

على جناحي طائر جنائني.. لتريحك على الآرائك التي فرشت لأجلك.

* * * * * * * * *

 

في أحد أيام شهر آب، اجتمعت العائلة في بيتي لوداعي.. 

الحرارة كانت شديدة، ( وآب في قاموس أهل حلب هو: آب اللهّاب ).

وقتها لم تكن ظاهرة أجهزة التكييف قد انتشرت في البيوت..

كنا نعتمد على مروحة سقفية من أجل تحريك الهواء في جميع الاتجاهات. 

وكنت قد قررت العمل في احدى دول الخليج بعد أن حصلت على الاجازة الجامعية، وأنهيت الخدمة الالزامية، نويت السفر بحثا عن مصدر رزق أختصر به السنوات في بناء مستقبلي، ويساعدني في القيام بدوري اتجاه عائلتي الكبيرة قبل الصغيرة.

 

عانقني الجميع الواحد تلو الآخر .. قبّلت يديّ والدي وطلبت منه الدعاء..

دعوت لوالدتي بالرحمة والمغفرة ، وأن يجعل الله مثواها الجنة.

انتظرت هي..  حتى فرغ الجميع من وداعي ..

اقتربت مني .. أحاطتني بذراعيها وضمتني الى صدرها ..

وضعت رأسها على كتفي .. 

 

بدا جسمها هزيلا، سنوات مضت وهي لازالت تصارع المرض والجوع والفقر وألم رعاية أطفالها.

أجهشت في البكاء وهي تقول:

-         كنت أحتاج رجلا..  بعد وفاة زوجي، أركن اليه في جزء من حملي .. !!

-         كنت بأمس الحاجة لرجل أضع رأسي على كتفه، لأشعر عندها بالأمان .. !!

-         كنت أنسى آلامي عندما تدخل علينا، ( أنا وأولادي )، وتتطاير الفرحة من عيون أولادي وهم يلتفون من حولك ينتظرون حكاياتك، ومسابقاتك ، وهداياك المرهونة بعمل يستحق المكافأة.

 

-         كنت لا أشعر بالحرج عندما أشكو لك سوء حالي.

( كانت تطلب للجميع، وتخجل أن تطلب لنفسها أي شيء)

-         أخي الحبيب.. اليوم أصبحت أرملة من جديد..

-         ( لا تنساني.. ولا تجعل المسافات تأخذك مني.. ).

لم يكن للبكاء وصفا ولا قيمة أمام العاصفة التي تصارعت مع كل نبض كانت تنطق به روحي.. حتى أني أحسست أن السماء تماهت مع الأرض..

وضاقت عليّ الدنيا بكل فضاءاتها..

قلت لأختي: انتظريني.. غيابي لن يكون طويلا..

* * * * * * * * *

 

 سنوات خمس انقضت والغربة تأكل مني ومنها..

وعربة العمر تمضي ( بطيئة .. مسرعة )، والمرض يفتك بها..

ألم المرض حل محل آلام الحياة التي بدأت تتلمس نتيجة صبرها في عبورها بأطفالها الى رصيف آمن قادر على تحمل أمواج البحر مهما علت وتلاطمت.

( عندما اقتربت أختي من رؤية نجاح وحيدها كان المرض أسرع الى الفتك بها ).

* * * * * * * * *

 

في زحمة العمل الذي صار ملازما لطبيعة حياتي في الغربة، رن جرس الهاتف ..

الرقم من حلب..

أحسست أن خبرا غير سار سوف يعبر سماعة الهاتف الى شريان روحي قبل مطرقة أذني.

أمي..!!!

 

صوت متحشرج مغموس بدموع وبكاء..

البقية في حياتك...

اغلقت باب غرفتي وأجهشت في البكاء..

راح لساني يردد..

الله يرحمك يا أم علي.. الله يأم علي..

يا زهرة لم تروى الا بعرقها وآلامها .. لترسم ابتسامة على وجوه الناظرين اليها.

 

يا  زهرة فاحت بعطرها ليعبق ريح الجنة عبر نسائم الحياة الفواحة من آلامها.

ويا أم الجميع..

من غيرك سوف يذكّرني بأسماء المحتاجين من الأقارب..؟

من بعدك سوف تجتمع العائلة عنده في أول أيام رمضان.. وفي ليلة العيد..؟

يا مسكينة.. كانت بسمة للمساكين.. وفرحة للمحتاجين.. وظلا يستظل اليه الجميع.

ويا.. ويا...

* * * * * * * * *

 

قررت السفر الى حلب وحضور مراسم الدفن..

تاهت الأفكار في رأسي .. وحل الألم محلها في صدري..

الحجز.. الوصول الى المطار.. لا توجد طيارة الى حلب مباشرة..

لا مانع يمكن الذهاب الى دمشق ومن ثم أستقل سيارة الى حلب..

المشكلة هي.. أن الطيارة سوف تصل الى دمشق عند الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت دمشق ، والطريق الى حلب يحتاج أربع ساعات على الأقل..

تأخر موعد اقلاع الطائرة بسبب عطل فني..

 

من المرات القليلة التي تتأخر فيها احدى طائرات شركة طيران الامارات في الاقلاع من دبي..

وهذا سوف يؤخر وصولي الى حلب حتى الغروب.

وصلت دمشق ..

كان ابن أخي قد اتفق مع أحد السائقين ليقلنا الى حلب مباشرة..

المسافة بعيدة .. والشوق الى رؤيتها كان يتسارع ليزيد من سرعة السيارة، قبل أن تحل ضيفا عزيزا على أمها في مسكنهما الجديد..

 

والسيارة تطوي المسافات كطي السجل للكتب.

وصلت السيارة الى بيت أختي.. 

سألني السائق ( الدمشقي ): هل عائلتكم كبيرة الى هذا الحد..؟

( هابه الجمع الكبير في الساحة أمام بيت أختي ).

قلت:  بل ان المتوفاة تملك رصيدا من المحبة لدى كل هؤلاء..

 

سأل مستغربا مرة أخرى : وهل جميع هؤلاء يعرفون المتوفاة..؟

بل هناك من يوازيهم عددا - بالتأكيد -  ينتظرون في المقبرة..

اغرورقت عينا السائق بالدمع ، وتمتم بكلمات كان منها: ( نيال اللي قدر يخلي كل هالناس تحبه).

تسارعت خطواتي باتجاه بيت أختي حيث انتظرت عودتي لوداعها..

المقر يصدح بآيات من القرآن الكريم عبر مكبرات الصوت في كل أرجاء الحي..

وصلت الى المدخل ..

 

تعالت أصوات البكاء من النسوة اللواتي شهدن آلامها.. والتففن من حولها..

اقتربت منها ..

كانت ممدّدة على أريكة ، وقد التفت بثوب مزركش بألوان غير اعتيادية، تحمل على خيوطها نقاء قلبها.. الذي يشبه نسائم الربيع..

وجهها كان يشع ضياءا" مستمدا" من نور وجه ابنتها ضحى..

والزهور تتناثر على جسدها الممدّد..

 

وعبق ريح الجنة فواح على المودعين

همسّت في أذنها:

 هنيئا لك الراحة الأبدية في عالم الخلود  يأم علي..

لقد أكلت الغربة مني ومنك ..

 

ولم يكن اللقاء بيننا الا عند الغروب..

وهل للشمس أن تصمد بحزنها أمام رحيلك..؟

حتى القمر تنحى جانبا.. وأفسح المجال لضياء نور موكب زفافك الى جنة الخلد..

 عندما نامت الشمس على كتفي، التحف الليل عباءته السوداء، وقدم لها رسالة اعتذار..

جاء صوت طرق النعال للأرجل المغادرة بعد أن أسدل ( أصحاب الأرجل )، الستار معلنين نهاية العرض.

 

تتسلل من خلف الستار باقة متلألأة من النجوم .

قدمت الأم لأولدها كوبا من الحليب..

ثم أتبعته بكوب من الحنان..

فاض .. ثم فاض.. ثم فاض.. 

هي .. رحلت مع الغروب.

2011-04-04
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد