كلُّ البلاد عزيزةٌ على أبنائها، كما هي الأمهاتُ في نظرِ أبنائهنَّ في العادة يصلن لمنزلة القديسات
وهذه من طبيعة الأشياء ومن فطرة الحياة، فمهما اشتدّ الظلم الواقع على الإنسان في وطنه إلا أنه وبمجرّد أن يبتعد عن ترابه مسافة ميلٍ هارباً من ظلم القربى أو سطوة بعض الفاسدين فيه سيعود إليه الحنين إلى ذكراه بمجرد ما تهدأ نفسه وتزول غمامة حزنه، وربما يكتب في وصف صفائه ورائحة ترابه أجمل الكلمات ..
وإذا كان هذا حالُ المدن والبلدان عموماً إلا أنّ لبعض البلاد مكانةً خاصةً تتجاوز مسألةَ الحنينِ لذكرياتِ الطفولة والأصحاب، فهناك ما هو أعمق من الحنين لذكرى تحتفظ بها أو الفخر بحاضرٍ تعيشه، هناك حنينٌ آخرٌ له بعدٌ حضاري، يأخذك بذكرياتك ويسرح بروحك وأفكارك بضعَ مئاتٍ أو حتى آلافٍ من السنين، وهذا في حقيقة الأمر ليس حال الكثير من الأمم وإنما بعضها فقط وربما تكون أمتنا على رأس هذه الأمم في عمق تأثير ما قدمته للتاريخ الإنساني، ولسوريا الحبيبة مكانة خاصةٌ ليس فقط في قلبي أنا كسوري، وإنما في قلب صفحات تاريخ الأمة ووجدانها، وفي امتداد جذور الوعي البشري ككل، والحديث عن بلدي حديثٌ طويل قد لا ينتهي إلا مع نهاية التاريخ الذي ربما لن يضعَ رحاله ويستريح في نهاية رحلته إلا في أحضانها ..
سوريا التي عشتها واحةٌ إنسانيةٌ تترفع عن كل النزعات الشوفينية العنصرية، وتأبى إلا أن تكون بلداً للجميع، فلم يَطِب لروح صلاح الدين الأيوبي الكردي الراحة الأبدية إلا في الالتحام بعراقة ترابها بجانب صرحها الأموي العتيد ..
على أرضها عاشت أقدم الحضارات وأبدعت إنتاجاً تراكمَ ليستفيد منه الجميع على حدٍ سواء، من ذاب في حبها ومن أراد بها أسوأ الأشياء، سواء عرفها قاطف ثمارها أو لم يسمع بها قط، فالكل في عُرفها الإنساني سواء ..
في قلبها وبين رموشنا ترتاح دمشق، المدينة الأقدم في التاريخ والعاصمة الإسلامية الثانية ، والتي لطالما تصارع على أرضها الحق والباطل مع كل خطوة جديدةٍ للإنسانية على صفحات التاريخ، ولطالما مكث حقها وذهب باطل الظالمين فيها جفاءً غير مأسوفٍ عليه أوعليهم، وها هي اليوم تبقى وقد زال من تعاقب عليها من طغاةٍ عبر التاريخ، حاولوا الانتماء لمجدها والاصطباغ بلونها ولصق اسمهم باسمها عنوةً فلفظتهم كما يلفظ الجرحُ النازف الدماء الفاسدة والفيروسات ..
منها خرجت أولى ملامح الحياة المدنية وعلى أرضها رمى إنسانها القديم ألواحه المرسوم عليها أقدم أبجدية في التاريخ، فتسابقت بقيةُ الأقوام للحصول على بعضٍ منها علّها تلحق بركب مدنيّتها، ولكن عراقتها لا تنتهي هنا فهناك تجتمع الحقيقة مع الأسطورة ، لتشكل ملامح ملحمة تاريخية عصيّةٍ على الانتهاء ..
وفي ترابها المقدّس خبأ مفكرها جودت سعيد في منتصف القرن الماضي بذور فكر اللاعنف الإسلامي، فنبتت وأزهر غصنها بعد حين، بعد بضع عشراتٍ من السنين، واللاعنف في الحقيقة أبجديةٌ كاملة الأحرف والقواعد والعبارات، ولكنّه ككل أبجديةِ لغةٍ حيّةٍ قابلٌ للتطور والتفاعل مع مجريات الواقع وطموحات الإنسان ومع ابتكاراته أيضاً ..
ولمن لا يعلم فإن أبجدية اللاعنف ابتكرت في وقتٍ كان عالمنا العربي والإسلاميُّ يموج بالصراعات في أواسط الستينات، حيث لم يكن لصوتٍ أن يعلو فوق صوت المعارك والسلاح، وكانت الصورة كأنها مشهدٌ أحمرُ مستعارٌ من مشاهد القيامة، فلقد كان حمل السلاح في وعي الإنسان العربي عموماً والمسلم خصوصاً مؤشراً على الحيوية والمقاومة والبقاء، وكان المصير الطبيعي لفكرة اللاعنف في تلك المرحلة هو الإهمال، ناهيكَ أنها قوبلت بالتشكيك والاستغراب كونها تعتبر في وعي بعض الجهاديين أفكاراً شاذةً عن روح الفكر الإسلامي، نعم هكذا كان ينظر إليها الإسلاميون وعموم المناضلين في ذلك الوقت الذين كانوا ولا يزال البعض منهم حتى هذه اللحظة يرى السيف أصدق أنباءً من العقل، يرون فيه طريقاً سريعاً وسهلاً لإزالة الباطل، حتى يتمكنوا هم من إحلال الحق الذي يعتقدون، ولكن لعبةَ السيف هذه لم تكن سوا تراجيديا إنسانية متكررة يَحلُّ فيها باطلٌ مكان باطلٍ آخر ثم يأتي عليه زمانٌ يُزالُ فيه بنفس الطريقة، وكل من جاء بالسيف بالسيف يهلك، وهكذا دواليك، وكذلك تكون سنة الأيام ..
ولهذا ترى أن المرض العنفي عمَّ الأمة في القرن الماضي، حتى لترى أن بعض الإسلاميين ولشدّة ابتلائهم به كانوا ولا يزال بعضهم يعتبر أن أتباع مدرسة المقاومة المدنية السلمية ينسبون أنفسهم إلى الإسلام " إسلامهم " وأن الإسلام منهم براء، ويعكس هذا النمط الفكري بعداً إقصائياً مزمناً يحتاج تشخيصه وعلاجه وقفة مطولةً أخرى تذهب بعيداً في عمق موروثنا الثقافي والتربوي، في ذلك الإرث الذي حملناه بلا وعيِّ منّا مع ظننا بأنه حقٌ لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ..
ظهرت تلك البذور الفكرية أثناء تجربة الإخوان المسلمين مع النظام المصري زمن عبد الناصر والتي عايشها الكاتب عن قرب، حين جُمعت تلك الأفكار في كتاب (مذهب ابن آدم الأول .. مشكلة العنف في العالم الإسلامي) الذي يمكن اعتباره بمثابة نقد لمنهج الإخوان في مصر في تلك الفترة، وربما كان كاتبه يستشرف بوادر مرحلة مظلمة ستصيب سورية فيما بعد، وهو الأمر الذي حصل بالفعل في صدامِ الإخوانِ مع السلطة والذي خلّف تجربةً مريرةً أصابت آثارها المجتمع السوري بالشلل لسنواتٍ طويلة، فعمّ الخوف وغابت ثقة الإنسان بالإرادة العزلاء وعاش المجتمع حالةَ إذعانٍ لمن يملك القوة المسلحة في ترقبٍ لما ستأتي به الأيام، وكأن الجميع يعيش حالة الهدنة القلقة مع عدو، وهذا ما يحدث حين يرتهن العقل والسلم لفكرة العضلات والسلاح !
ويعتمد كتاب مشكلة العنف في العالم الإسلامي منهجاً قرآنياً في النظر لمسألتي العنف و رد العنف كعنفٍ مضاد، من خلال التأمل في قصة ابني آدم القاتل والمقتول بالتوازي مع السيرة النبوية في مرحلتها المكيّة والتي تعتبر درساً عملياً حقيقياً وواضحاً لقوة الإرادة العزلاء ولقدرتها على محو الباطل المسلّح، مبدأ المقاومة السلمية، حالة اعتناق الفكرة والتخلي في الوقت نفسه عن نفسيّة إلغاءِ الآخرِ والتحلّي بأخلاقيات ذات سوية عالية تمتلك بصيرة التمييز بين المرض الذي يعاني منه الظالم أو المستكبر وبين شخصه هو كإنسانٍ مصابٍ بالمرض، أي الترفع عن الولوغ في وحل الشخصنة وردود الأفعال الثأرية، وهذا الموقف ما هو إلا مقاربة إنسانية مختصرة لموقف ابن آدم القتيل حين قال له أخوه ( لأَقْتُلَنَّكَ ) فما كان جوابه إلا أن قال ( لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) المائدة).
الموقف الذي حمله كل الأنبياء وأتباعهم في تبليغ رسالة الخير والعدل مع كفِّ الأيدي وقول "لا" مكررةٍ مرتين في وجه الظالم، الأولى لا للتخلي عن الحرية وتأليه بشرٍ آخرين، والثانية لا لردّ الفعل الثأري والتحول لقاتل تحت وطأة الظلم، وفي نفس الجو يأتي الحديث الشريف مصداقاً لمعاني الآية (إذا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ فقلت يا رَسُولَ اللَّهِ هذا الْقَاتِلُ فما بَالُ الْمَقْتُولِ قال إنه كان حَرِيصًا على قَتْلِ صَاحِبِهِ [إنه قد أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ]) وهو ما يجعل من فعل القتل والنفسية التي تحمل رغبة القتل في درحة واحدة والمصير لكليهما مصيرٌ واحد، فما نفسيةٌ الثأر ورد الفعل إلا وجهٌ آخر لعملة القتل، مع اختلافٍ في المواقع والأدوار، وما أسهل أن ينقلب الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً حين تتعاقب الأدوار، وتلك الأيام نداولها بين الناس ..
لقد كان من الصعب أن تجد الأفكار التي طرحها جودت في تلك الفترة طريقها إلى النور، فمثل هذه الكلمات القليلة تحتاج نهضة فكريةً شاملة، أو بتعبيرٍ أدق تحتاج بدايةً لعملية تغيير واسعةٍ لما في الأنفس ومراجعة شاملةٍ لما نحمله من أفكار، ولم يكن ذلك ليغيب عن باله أثناء إجراء حفرياته الفكرية، فأولى فيما بعد مسألة تغيير ما في الأنفس عنايةً فائقة في كتابه (حتى يغيروا ما في أنفسهم ) فعالج انطلاقاً منه مسائل متعددة في العلاقة بين المستكبر والمستضعف والاستعمار والقابلية للاستعمار، بل أبحر في علم نفس الظواهر البشرية حسب الطريقة القرآنية، وهذا موضوع آخر مهم ويحتاج منّا وقفةً مفصّلةً أخرى ..
عاشت هذه الأفكار فترة طويلةً من الكمون أو ربما فترة من التحضير والانتشار الصامت، وتزامن ذلك مع خيبة أمل الشعوب من تجاربها العنفية المتكررة التي كانت معدلات التضحية فيها عالية مع مردودٍ سلبيٍ أكبر على مستوى الظلم والفساد، ثم جاءت هذه الأيام بجيلٍ يؤمن في عمومه بالسلم ويسعى لتغييرات نوعية شاملة، الأمر الذي أظهرته الأحداث التونسية والمصرية بصورة جليّة، مع خصوصية التجربة المصرية التي كما ذكرنا عاشت أحداثاً سابقة مؤسفة أدت لتبلور فكرة اللاعنف والمقاومة المدنية بشكلٍ أو بآخر عند جودت سعيد، وها هو الإنسان المصري اليوم الذي خرج للعالم يوماً بفكر التغيير المسلح ينتفض سلمياً وكأنه يثور على نفسه ليزيح عن كاهله عهوداً من الاستبداد والفساد، في مشهدٍ حمل بشائر الوعي على خطى التغيير السلمي الشامل الذي تطمح إليه الشعوب ..
اليوم تنفض الكثير من الشعوب عن كاهلها عهود القتل والإلغاء، وتسعى نحو بناء مجتمع العدل وكلمة السواء، ولكن في الوقت الذي تعبر فيه البلدان من حولنا نهر عبوديتها نحو ضفاف السِلم والديمقراطية بعد استفادةٍ من عبر التاريخ، يبدو الأفق السوري ضبابياً معتماً، بسبب ثقل الإرث الدموي الذي حملناه جرّاء تجربة الثمانينات المريرة، وبسبب وجود بعض الأصوات التي ما تزال تؤمن بالعنف كطريقة لمعالجة المشاكل الداخلية، رغبةً في الحسم السريع، أو إيماناً بأيديولوجيا معينة في التعامل مع الآخر المختلف، أو في التعامل مع الظالم والمفسد ..
ولكن إن كان ولابد لنا من إرثٍ نحمله فليس لنا أفضل وأنصع من هوية الحضارة والمدنيّة التي أطلقتها هذه الشعوب عبر التاريخ، فلقد قدر لهذه الأرض أن تحتضن أبجديتين، الأولى كانت أبجدية التعبير، والثانية أبجدية أخلاقيّات التعبير والتعامل الإنساني ..
فإن كان لابد من الأولى لتسجيل الفكر وإيصاله لباقي الشعوب أو لوضعه أمانةً في عهدة التاريخ، فإن الثانية "التي هي أبجدية التعبير السلمي عن الحقوق " هي المعبّر الأهم عن مدى رقي إنسان هذه الأرض ومستوى تحضّره في حمله رسالة السلام إلى العالمين ...
إن أمام أبناء سوريا فرصةٌ تاريخيةٌ في نشر أبجديتهم الحديثة، في تلقين البشرية من جديد أحرف التعامل الراقي على مخطوطة السلم والتعايش بين الجميع، أمامهم فرصة في توثيق احتضان تراب عاصمتهم لرفاتِ ابن آدم القتيل (هابيل) على مقربةٍ من عاصمة الياسمين، ولكنني لا أتحدث هنا عن توثيقٍ تاريخيٍ لا يقدم ولا يؤخر بشيءٍ، وإنما عن توثيقٍ حركيٍّ فعليٍّ يثبته اعتناق فكرة ابن آدم، الذي آثر أن يكون مقتولاً على أن يحوِّله أخوه لقاتلٍ مثله، وكانت النتيجة ندمَ القاتل واعتناقه فكر المقتول، فماتت بالنتيجة نفسيةُ القتل، ووهبت الحياة لما كان يملأُ روح القتيل ..
لقد كان لخير ولدي آدم إيمانٌ وقوة إرادةٍ بأن الحق الذي يملكه في مقابل ما يملكه أخوه من باطلٍ، لا يجيز له استخدام القوة أو حمل نفسية العداء، نفسية القتل والإلغاء، فاستحق تخليداً على الطريقة القرآنية، يذكره أتباع الأنبياء بكرةً وعشية، وأثناء كل صلاة .. ومن آمن باللاعنف وإن مات فسيحيى ..
فهل يستفيد أبناء سوريا الحبيبة من تجاربهم الدامية، هل يعيدون إحياء سيرة خيرِ ولدي آدم، هل سنرى في ساحاتها قريباً شعاراً يسبق شعارات الحرية والخبز والكرامة وقانون الطوارئ، هل سنرى في ساحاتها من يرفعُ لافتاتٍ تقول : أن القاتل والمقتول في النارِ إن هما اعتنقا رغبةَ الثأرِ نفسها ؟!
إنهم لو فعلوها هذه المرّة فصرخوا في وجه الفساد ثم صبروا، وتبرؤوا جميعاً من أشكال العصبيّات والانتماءات وأساليب العنف والثأر وتعالوا فوق الجراح والآلام، فإن التاريخ سيذكرهم كذكره للأنبياء !
............................................................................