تعتبر أزمة السكن من المشاكل الملحة في بلادنا من حيث الحاجة لحلول سريعة وناجعة خصوصا في هذا الوقت الذي تطرح فيه بقوة قضية المباني العشوائية والمخالفة وتأثيرها على جمالية المدينة وأمان المواطنين
ولا يخفى على أحد أن جذور المشكلة بدأت بسبب ارتفاع أسعار المساكن النظامية ومعدل النمو السكاني المرتفع في سوريا وضغط الهجرة إلى المدن الكبرى كدمشق وحلب .
تلك هي الأسباب المباشرة , ولكن أليس هناك عوامل أخرى غير مباشرة ؟
في الواقع نعم , وهي مرتبطة بطبيعة الاقتصاد الاجتماعي وتعاطي الناس مع مسألتي الاستثمار والادخار , فغالبا ما يوجه الناس أموالهم الفائضة إلى الاستثمار في العقارات ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها , ولكن ما هو مبرر هذا السلوك الاقتصادي رغم تعدد البدائل الادخارية ( صندوق توفير البريد نموذجا ) وتعدد البدائل الاستثمارية أسهم البنوك نموذجا هذا على هامش القيام بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة ؟
الأمر يكمن في أفضلية البديل من وجهة نظر المدخر , فمن المعروف أن أسعار العقارات تأخذ خطا بيانيا صاعدا مع مرور الزمن لا تضاهيه وسائل الادخار الأخرى كالذهب الذي يرتفع بوتيرة أقل ( مع وجود خسارة الصياغة عند البيع ) والمنقولات بأنواعها التي تستهلك وتتضاءل قيمتها مع الزمن , وحتى إبقاء السيولة تحت اليد أو في البنوك قد تكون غير مطمئنة ( بالنسبة للمالك غير التاجر) عندما يشعر بشبح التضخم متجسدا بارتفاع أسعار السلع والخدمات من حوله يبتلع عوائد سيولته .
وكلامنا حتى الآن عن المدخرين الصغار والمتوسطين , وحتما فإنهم بمجموعهم سيشكلون رقما مؤثرا في توجيه عجلة الاقتصاد المحلي .
ويبقى البديل الأخير وهو الاستثمار في المشاريع , وهنا تتم المقارنة بين الربحية المتوقعة من المشروع مع ربحية وريع العقار , ستلعب هنا نسبة المخاطرة بالنسبة للمدخرين دورا في ثنيهم عن الاستثمار ما لم يكن رأس المال كافيا ومناخ الاستثمار مشجعا والقدرة الشرائية للمستهلكين بصحة جيدة , ووحده التوجه الأعظمي للمدخرين باتجاه أحد البديلين سيعطينا الفكرة أيهما المفضل على الآخر .
إذا فارتفاع أسعار العقارات يمكن إن يكون مؤشرا على ضعف الاستثمارات الأخرى , ولا أتكلم هنا عن كبريات المشاريع التي لا يمكن أن ننكر وجودها , ولكن تجدر الإشارة أنه حتى كبار المستثمرين قد تشكل مشاريع الأعمار بالنسبة لهم أفضلية على باقي القطاعات للسبب المذكور أعلاه .
وهذا قد يبرر عدم اكتراث المقاول بمستوى العرض والطلب , ويكتفي ببيع بعض الشقق تغطي كلفته في المحضر ثم يبقى غالبها بدون بيع لارتفاع أسعارها باستمرار مع الزمن وهو ما يصب في مصلحته ومصلحة ورثته .
أما العامل الآخر فهو العامل النفسي , إذ يكفي أن يطلب مالك أحد العقارات سعرا مضاعفا على عقاره حتى ترتفع أسعار كل العقارات في نفس المنطقة ويصبح عقد بيع واحد هو المقياس لسعر السوق .
وبعد ذلك ألا يمكن حل هذه الأزمة من خلال معالجة أسبابها المؤدية لها ؟
عادة عندما يطرح مثل هذا التساؤل , سيجول بخاطر القارئ فورا مجموعة من القوانين الناظمة توضع لمصلحة المواطن ذي الدخل المحدود وتحول الحلم إلى واقع .. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة إذ لا تستطيع القوانين أن تضبط الأسعار والأسواق إلا بشكل جزئي وقد يكون مؤقتا لحين ابتكار أساليب تجارية جديدة .
ومن المعروف في علم السياسة الاقتصادية أن الإجراءات التي تضعها حكومات الدول ترتبط بما يمكن أن تطاله قوانينها كالرسوم الجمركية والضرائب والإعفاءات والمسموحات في التصدير والاستيراد الخ ..
فمثلا إذا أرادت الدولة تشجيع الإنتاج الوطني لسلعة معينة تقوم برفع التعرفة الجمركية على السلعة الأجنبية المنافسة
وإذا كانت الأسواق تعاني كسادا فيمكن أن ترفع رواتب وأجور الموظفين لزيادة الطلب بنسبة معينة , وبالعكس في حالات التضخم الحاد تمنع الزيادة حتى لو كانت الموازنة العامة تسمح حرصا على ضبط الأسعار وقد تخفض كما حصل في بعض الدول الأوروبية .
هل يمكن أن للقوانين أن تضبط أسعار العقارات حسب المناطق مثلا ؟ قياسا على تحديد أسعار السلع التموينية ؟
الفارق كبير هنا ولا يمكن تحقيق هذا الضبط كونه سيعتمد على العقود المبرمة بين التجار والمشترين والتي يمكن التلاعب بها وإجراء تسديدات أخرى غير موثقة , والعبرة هنا أنه من حق المالك أن لا يبيع حين لا يشاء .. وستكون الأولوية لم يدفع أكثر ولو خارج العقد .
لابد من وجود خطة اقتصادية ناجحة يضعها مجموعة من الخبراء تهدف مثلا إلى تشجيع الاستثمار في قطاعات أخرى بحيث تحقق عوائد تشجع المدخرين على الالتفات إليها لإضعاف مستوى الطلب على العقارات وهو ما يمكن أن يؤدي إلى كبح جماح أسعارها ولو على المدى الطويل .
ويخطر بذهني حل افتراضي آخر وهو قوننة فترة صلاحية للأبنية النظامية ( 50 عاما مثلا ) يمكن أن تمدد اعتمادا على تقرير لجان مختصة وعندما تنتهي الفترة تؤول ملكية البناء المستهلك للدولة وتبقى الأرض لمالكي الشقق كل حسب سهمه و تجرى عملية الإخلاء والهدم بقانون ملزم وتباع الأرض من مالكي الحصص الى مقاول جديد ليقوم ببناء جديد يتلاءم والتطور العمراني .
إن الفكرة الأساسية من هذا الطرح هو تحقيق انخفاض بسعر العقار مع تقادمه , والتاجر في هذه الحالة سيحرص على بيعه بأسرع وقت , فكلما مضى عليه الزمن تدنى سعره .
وحقيقة فان أي بناء له عمر محدد ( ما لم يكن من الحجر كالأبنية الأثرية ) و هذا شائع في بعض دول العالم حيث تجدد أبنيتها وتطور مدنها باستمرار .