* إنسانية :
كان الدكتور سامر جالساً في عيادته ذلك المساء , ويعتبر ذلك اليوم أول أيام عمله منذ تخرّجه الذي لم يمضِ عليه بضعة أشهر , دخلت عليه سكرتيرته لتعلمه بدخول مريض .
دخل عليه رجل في الستينات من عمره وعلى وجهه ابتسامة عريضة , قابلها الدكتور سامر بابتسامة ودودة كعادته , ولكن كانت هنالك مفاجأة من نوع غريب , وهي دخول المريض إلى الطبيب وهو حاف ٍ !! .
استفهم الطبيب من المريض بحركات من عينيه عن هذا الوضع الغريب , فابتسم المريض وقال : والله إني أستحيي أن أدخل بحذائي على الأطباء احتراماً لهم .
جلس المريض على الكرسي في مواجهة الطبيب , وبعد تبادل التحيّات بدأ المريض في سرد قصّته قائلاً :
لقد دلنا عليكم يا دكتور سامر أهل البر والصلاح لما يعلمون فيكم من الخير .
لي ولد عمره ثلاثة عشر عاماً , وهو ولد نجيب طائع لي ولأمه حتى صار قرّة لعيوننا , وذكّي و لماح , لم يشهد حيّنا مثل ذكائه حتى ضُرب به المثل بين أقرانه .
وفي أحد الأيام دخل علينا أحد جيراننا الموسرين وكان ابني جالساً يدرس , فنظر الجار إليه نظرة هلع لها قلبي ثم قال : ليت عندي ولد ٌ مثل هذا الولد و سأتبرع بكل مالي للناس جميعا ً.
لم أرتح كثيراً لنظراته إلى ابني فأمرت الولد أن يدخل إلى إحدى غرف المنزل خوفاً عليه من العين .
لم تطل القصة كثيراً إذ صار الطفل بعد ثلاثة أيام يشكو من ألم في بطنه , فأعطيناه بعض الحبوب المسكنة التي لدينا وشيئاً من مغليّ الكمون حتى هدأت آلامه .
وعاش يومين آخرين مرتاحاً دون أية آلام أو إزعاجات أو منغّصات , حتى جاء اليوم الثالث حيث بدأ ألم جديد وعهد جديد من الاضطراب في البيت فَرَقاً من آلام هذا الصبي .
راجعت به أحسن الأطباء وكان تشخيصهم الوحيد التهابات في الأمعاء وأعطي الكثير من الأدوية فلم يتقدم أية خطوة نحو الشفاء .
ولكن بعد سوء حالته بشكل كبير أدخلته للمشفى , وكان هنالك التشخيص الدقيق الذي أحزننا وفجر قنبلة من الحزن في بيتنا ما تزال آثاره مدوية وصارخة في كل زاوية منه , لقد شخص الأطباء حالة ابني على أنها سرطان في الأمعاء الدقيقة , وأجروا له ثلاث عمليات جراحية حتى الآن , وما زال يعاني آلاماً لا تطاق تُسهِر ليلنا وتؤرق نهارنا , ثم أخذ الرجل بالبكاء والنحيب بشكل يحطم الفؤاد .
تملكت الدكتور سامر غصة في حلقه وهو يستمع لهذه القصة المليئة بالأسى والحزن .
ولكن الرجل لم يكمل قصته بعد , إذ بدأ يسترسل في شرح تفاصيل أكثر حزناً , من دخول الطفل في اختلاطات أخطر من انتشار الورم إلى الكبد و حصول قصور كلوي , و صار يُجرى له غسيل كلوي مرتين في الأسبوع , وصرف المزيد من المال حتى أصبح الرجل كما يقول على الحديدة .
حزن الدكتور سامر كثيرا لهذا المصير الذي آل إليه الطفل البريء , و انتابه خوف للحظات من أن يكون هذا الأب قد جاء لاستشارته في هذه الحالة المرضية المعقّدة وهو ذلك الطبيب الذي لم يمض على تخرّجه إلا بضعة أشهر , ولكن هذا الخوف تبدّد عندما أعلمه الأب من أنه جاء لأمر إنساني لا لاستشارة طبية .
تفاجأ الدكتور سامر عندما أعلمه الرجل بحاجته إلى المال , ولكن هذه المفاجأة لم تدم طويلاً أيضاً عندما علم من الرجل أن أطباء المدينة قد أدلوا دلوهم في هذا الأمر لمعرفتهم بمصيبة هذا الرجل التي تنوء بحملها الجبال .
اعتراه الخجل وهو يضع يده في جيبه حيث أنها لضيق الحال لم تسفر إلا عن خمسمائة ليرة ناولها الدكتور سامر للرجل دون النظر في عينيه , ومع ذلك فرح الرجل فرحاً شديدا وأسرع الخطى بالانصراف بطريقة أذهلت الطبيب, ثم لبس حذاءه وغادر العيادة على عجل .
اتكأ الدكتور سامر على كرسيه ساندا ظهره كالملك الذي انتصر في أعتى معاركه , دخلت عليه السكرتيرة لتعلمه بدخول مريض آخر فلاحظت على وجهه أمارات الفرح , فأرادت أن تشاركه فرحه فبادرته بالسؤال وهي تبتسم : ما هي الحاجة التي قدم من أجلها أبو لطفي إليك يا دكتور وجعلتك بهذا القدر من الفرح .
فرد مستغرباً : وهل تعرفين هذا الرجل ؟ .
قالت : نعم إنه يسكن في حارتنا .
فقال : كيف ترين حالته المادية وهل ابنه مريض بالشكل المحزن الذي وصفه لي :
فردت وهي تضحك : ولكن أبو لطفي ليس عنده أولاد يا دكتور !!!!!!!!!!!!!!!! .