إهـــداء
إلى جارة القمر و..قيثارة السماء
إلى الفنانة فيروز
أهــــــدي قصة قصيرة/ أعطني الناي
اجتاحه يأس حانق ونفذ إلى حواسه كما تنفذ رائحة مجهولة المصدر إلى مكان مغلق، رمى القلم من بين أصابعه ومزّق الورق المكوّم أمامه ثم وضع وجهه بين كفيه وهو يتمتم:
- ماذا يجدى؟ مئات المقالات وعشرات الكتب ومع ذلك لم أتقدًم خطوة واحدة..؟
ثم ما لبث أن انتفض واقفاً واتجه نحو الباب الخارجي وعبره، بعد أن صفعه بشدة، استقبلته دفقات من الهواء الخماسينيّ المحمّلة باللزوجة والتراب، سعل، وضع كفه فوق فمه وتابع مسيره حتى الشارع الرئيسي الذي كانت تتسابق فوق أديمه السيارات والخلق فى تدفق وضجيج
وقف على محطة الباص يتابع المارة فى فضول وتعجب... فبالرغم من هبّات التراب المتوالية والغبار الذي يثير الكدر إلا أن الوجوه كانت تشرق بالفرح والعيون تومض بالحب.. الحب، نعم الحب الذي تضخًمت به بطون الكتب وسكب قلمه وسطّر الآهات والدموع والأوهام:
كم انتظر عبثاً أن يلتهب شيء ما ويشع فى داخله! أن تتقد الجوهرة الحمراء التي في صدره وتدق دقات المحبين والعشاق!؟ تنهد تنهيدة طويلة، فالفراغ الرطب فى قلبه جعل أعوامه الخمسين بلا معنى... شرد ذهنه.. إنه يفتقد شيئا ما ..! هل ضاع منه أحد أسرار الخليقة ..؟
عاد الخمول يغرقه، نظر مرة أخرى إلى أطراف القميص التي علاها البلى... لاحظ ذلك منذ شهر ولم يهتم ..
ولماذا يهتم ..؟ وصل الباص فصعد، كان الباص شبه خال.. تصفح وجوه الجالسين وجلس في أحد المقاعد، ثنى ذراعه وأخرجه من النافذة، تأمل وجه الفتاة التى تجلس أمامه، كان وجهها جامداً لا يوحى بشيء، نظر في وجهها وفكر في مئات الأشياء دفعة واحدة، فكر أنه تقع حالياً ملايين الأحداث فى الدنيا: يصرخ آلاف الأطفال وهم يتضورون جوعاً.. تلتحف العاهرات بأوراق البنكنوت والذكور يضاجعوهن في شبق وجنون.. ينتهي شاعر من سرقة قصيدة أستاذه طمعاً في التتويج.. يصرخ قرد في الغابة ونمر يلطمه تمهيداً لالتهامه.. في البحر تتسابق طيور النورس في التقاط الأسماك من بين الأمواج.. أما من باطن الأرض فتتحرك ملايين النباتات بحنين إلهي لا يقاوم نحو الشمس...
يحدث كل ذلك بينما هو يجلس ساكناً لا يفعل شيئاً سوى ازدراد ريقه وقراءة اللافتات وإلقاء نظراته على المقاعد الخالية... ثم فجأة وجد جسده ممدداً على أرضية الباص، ماذا حدث ..؟ كيف حدث ..؟ انتفضت الفتاة الجالسة أمامه ومدت يدها وأمسكت بيده وسحبت جسده حتى أجلسته.. كان كفها بارداً مثلجاً رغم تورد خديها.. ثم سحبت يدها وقالت فى صوت عذب:
- كيف حالك الآن ..؟
إنها تتحدث إليه وهو يرد عليها، كان وجهها جاداً ورقيقاً في الوقت نفسه، خيل إليه أنه لمح مع ظلال الجد ظلاً رفيعاً من الحب.. نعم الحب، هل هذا هو الحب..؟ هل أحس به..؟ هل انتفضت الجوهرة الحمراء ودقت دقات المحبين والعشاق..؟ لا.. لعله يبالغ قليلاً، ليس حبا.. لعله مجرد ود، بل ليس ودا تماما بل محض إشفاق، إن لم يكن إشفاقاً مشوباً
بسخرية... كلا.. كلا.. إنه ليس إشفاقا من النوع المهين الذي اعتادت الفتيات أن ترمقنه
به، بالتأكيد كان هذا عطفاً ممزوجاً بالود... والأكثر تأكيدا أنه مضطرب قليلا.. أليس كذلك..؟ الأولى به أن ينهض ويجلس في مقعده.. وهذا ما لم يتأخر في فعله...
نمً فمها عن ابتسامة محددة، ثم أشاحت بوجهها عنه وسرعان ما عاد للوجه جموده... نزلت الفتاة بعد محطتين، نزل خلفها غير أنه وقف متسمراً، تابعها وهي تخطر برشاقة في نهر الطريق وذيل فستانها ينحسر بفعل الريح.. ارتسمت على شفتيه ابتسامة وفكّر، ألا يكفيه تلك الومضة السريعة من الود الذي برق من عين الفتاة وهى تسحب يده وتجلسه وتكاد أنفاسها تختلط بأنفاسه؟؟ ألا يكفيه هذا؟؟ عندئذ طاف انطباع الرضا على وجهه، دس يديه داخل جيوب بنطلونه وزمً شفتيه ونفخ فانطلق صفير عذب منغم...
سار متمهلا وهو يتمتم:
أعطني الناي وغني فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود .