لا أحد ينكر أن إحدى أهم ميزات دولتنا الكريمة المتمثلة بإتاحة العلم للجميع و خاصة الطبقة الفقيرة بعد أن كانت محصورة في أبناء الأثرياء و بالتحديد الدراسات العليا للحصول على شهادة الماجستير و الدكتوراه تعد سمة بارزة لسورية في العصر الحديث.
تنفق الدولة سنويا مئات الملايين على أبنائها الموفدين للخارج لتمكينهم من الحصول على الشهادات العليا في مختلف العلوم و هم عادة يوفدون لصالح الجامعات أو للجهات الحكومية الأخرى. طوال فترة الإيفاد تراود الطالب الموفد على العموم أفكارا" مقلقة و هواجس تتعلق بمصيره بعد الإيفاد و خاصة موفدي الجهات الحكومية و أحيانا" المتميز جدا" منهم تحتفظ به جامعته أو يبقى في بلد الإيفاد بحيث يتخلف عن العودة للقطر هربا" من الصعوبات التي تنتظره في بلده الأم.
بالنسبة لموفدي الجامعات الحكومية فالعودة للقطر شبه مؤكدة لكثرة الفوائد و الايجابيات لكونه سيصبح عضو هيئة تدريسية و راتبه الذي يعادل ثلاثمائة بالمائة من الراتب المقطوع مع السماح له بدراسة المشاريع الخاصة و بأعمال التدقيق مع الاحتفاظ بنسبة من الأتعاب لصالح الجامعة و بالميزات الخاصة لأولاده مثل مفاضلة البكالوريا بالإضافة إلى الميزات المغرية الأخرى التي تجعل عليه من الصعب جدا" أن يتخذ قرارا بعدم عودته للقطر و التحاقه بجامعته.
أما بالنسبة لموفدي الجهات الحكومية فالأمر مختلف تماما". سلسلة طويلة من المصاعب بانتظارهم حالما يعودون من الإيفاد و يلتحقون بوظائفهم مما يجعلهم يندمون على عودتهم لوطنهم ليقضوا فترة التزامهم بخدمة الدولة. و يمكن إيجاز هذه المصاعب بما يلي:
1. طوال الفترة التي تمتد من تاريخ وضع الموفد نفسه تحت تصرف الدولة و التحاقه بوظيفته حتى تعديل شهادته و صدور قرار الجهاز المركزي بتعديل وضعه الوظيفي من مهندس إلى دكتور مهندس و التي تستغرق حوالي العامين لا تدخل في مدة الالتزام بخدمة الدولة.
2. لا يمنح الموفد الترفيعة الدورية للراتب (تسعة بالمائة) كاملة على الراتب المقطوع و إنما (خمسة أو سبعة بالمائة) كونه لا يوجد على رأس عمله و بكل الأحوال ستمر على الموفد دورتين و سيخسر من قيمة راتبه القطوع (أربعة بالمائة) و بحال مرت عليه ثلاثة ترفيعات سيخسر (ستة بالمائة).
3. يمنح الدكتور المهندس العائد من الإيفاد علاوة على راتبه المقطوع قدرها (سبعة بالمائة) لحصوله على الدكتوراه و عمليا يكون قد خسر (أربعة بالمائة) مسبقا فتكون العلاوة الفعلية (ثلاثة بالمائة). و تقدر العلاوة بحوالي 750 ليرة سورية.
4. الإجازة الخاصة بلا اجر تحتاج إلى موافقة رئاسة مجلس الوزراء حصريا" و هذا الأمر له تعقيداته و خاصة أن الموافقة على الطلب يحتاج (خمسون يوما) على الأقل بالمراسلات العادية.
5. غير مسموح لحملة الدكتوراه من المهندسين بدراسة أو تدقيق المشاريع الهندسية الخاصة أسوة بزملائهم من أعضاء الهيئة التدريسية.
6. لا يسمح لهم إطلاقا" بالتقدم لمسابقات تعيين أعضاء الهيئة التدريسية التي تعلنها وزارة التعليم العالي سواء أنهوا أم لم ينهوا خدمة الدولة. و هنا نتساءل لمن مصلحة هذا الأمر و من المستفيد منه؟؟؟ ألسنا من أبناء هذا الوطن!!!! و ماذا لو استغنت الوزارات عنهم؟
7. على الأغلب فهم غير مرغوب بهم ضمن وظائفهم الحكومية بسبب تخوف بعض أصحاب المناصب الوسطى و العليا منهم لحملهم شهادات الدكتوراه فيكتسبوا معاداة البعض مما يسبب إزعاجات دائمة لهم في العمل.
8. لا توجد أي ميزات لهم تراعي وضعهم الاجتماعي في المجتمع. و هنا نتساءل عن أي إبداعات علمية و رغبة في العمل سيقدمها حملة الدكتوراه في ظل هذه الظروف و هل هذه الظروف الغير منصفة ستوفر لهم جوا" ملائما" لوضع كل طاقاتهم في خدمة وظائفهم الحكومية على خطى تطوير البلد و تلغي من أفكارهم ضرورة الاغتراب مرة أخرى في بلدان تحترم طاقاتهم و علمهم و جهدهم أم ستبقى بعض الجهات الحكومية تلقي الشعارات و الخطب الجوفاء و الرنانة بأننا سوف نعمل على منع هجرة العقول و الخبرات الوطنية و سوف .....!!!.
9. هل يعقل أن يكون لسائق حكومي له و لو حتى مائة عام من الخدمة راتب أعلى من راتب من يحمل أعلى شهادة علمية في البلد؟؟؟ و هل من المعقول أن الدكتور المهندس بعد 14 سنة من خدمة الدولة راتبه 17 ألف ليرة سورية بالتمام و الكمال.
لقد ماتت و انقهرت كل طموحاتنا و أحلامنا على أعتاب بلاط حكوماتنا الغراء ..... لا نريد صدقة من أحد و لا نستجدي أحد و لكن عندما نفكر طوال اليوم بقوت أولادنا و بفواتير الانترنت و الهاتف و الكهرباء و الماء و أجرة السكن و نجد أن راتبنا لا يكفي أن يسد نصفها و نحن نمنع من العمل الخاص خارج الدوام الرسمي فلا يدعونا احد لنقدم شيئا" أو نبدع شيئا"، فالشجرة اليابسة لا تعطي ثمرا" و النفس المهمومة القلقة لا تعطي إبداعا" . كم من أمثالي وصل اليأس إلى دمائهم فيبست في العروق و انزوت أحلامنا تتشرد في ظلمات البيروقراطية و القوانين التعيسة التي مر عليها الزمن لتستمع بإصغاء مجددا" إلى تلك الشعارات الجوفاء .... بحرقة و ألم و دمع يغرغر في العيون حزنا" و كمدا".