أرسلَ إليَّ أحد الأصدقاء مقالاً أعدّه بنفسِه حول المثل الشعبيّ السّائر "حَدا يْجيْـبْ الدّب عَ كَرْمو؟!"، وعلّق عليه بأسىً يقول: من المؤسف ألا تلاقي مثل هذه المقالات طريقَها إلى النّشر! ألعلّني أخطأتُ في شيءٍ ما؟! أم إنّ النّاسَ لا تستهويها هذه الأنماط؟!
وفي الحقيقة إنّ دراسة تراثات الشّعوب وما تعلّق بها من تراكمات وتبدّلات وتحويرات لهي القاعدة الأساسيّة لدراسة المجتمعات وتطوّراتها وتقلّباتها منذ الأمس وحتّى اليوم. وتندرج في أكثر من علمٍ ومعرفة منها "علم الاجتماع" و"الفلكلور" و"علم الإنسان" و"الآداب"... إلخ!
وأعجبني أن يبذلَ صديقي هذا الجهد لدراسة مثلٍ واحدٍ اشتهرَ في سورية على اختلاف مناطقها وثقافاتها، فثمّنتُ فيه هذا الاندفاع وراقَ لي أن أنشرَ مقالَه على هذه الصّفحات بعد أن طلبتُ منه أن يمهرَ لي الإذنَ بالنّشر، وبعد أن أعلمته بأنّ النّشر سيكون مرفقًا بنقدٍ مختصرٍ سريع لأسلوبه في معالجة المثل.
كتبَ يقول:
"حدا بيجيب الدب ع كرمو؟!
كبداية خلينا نعدّد كم نوع من أنواع الدّببة مثلا:
الدب القطبي: هو نوع من أنواع الدببة يتواجد في منطقة القطب الشمالي الممتدة عبر شمالي الاسكا، كندا، روسيا، النرويج، وجرينلاند وما حولها. يعتبر الدب القطبي أكبر ثدييات اليابسة اللاحمة حاليا، ويصل في طوله لما بين 2.4 و3 أمتار.
الدب الأسمر أو الدب البني: هو نوع من الدببة، منتشر في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية. يُمكن أن يزن من 300 إلى 780 كغ.
الدب السوري: هو إحدى سلالات الدب البني وأصغرها جميعا، وهو حيوان قارت (آكل لكل شيء)، فهو يقتات على اللحوم والأعشاب والفاكهة والحشرات وغيرها. يبلغ ارتفاع الدب البني السوري 140 سنتيمترا عند الكتفين، ويتراوح لونه من المصفر إلى البني القاتم. كانت الدببة البنية السورية وافرة العدد قديمًا في أوائل فترة انتشار المسيحية وما قبلها في بلاد الشام، وفي القرن التاسع عشر كان هذا الدب مألوفا في سوريا وشمال فلسطين والجولان بشكل خاص حيث كان يشكل خطرا مستمرا على قطعان الماعز والخرفان المستأنسة التي يرعاها أصحابها في الخلاء. وتمت رؤية آخر دب بني سوري عام 1917 جنوبي جبل الشيخ أو جبل حرمون في جنوب سوريا، لكنه بقي موجودا في الغابات السورية الشمالية والغربية.
بالعودة الى المثل "حدا بيجيب الدب عَ كرمو" خلينا نوضح فكرة أول شي: أنو الدب هوّي حيوان لاحم، والدب السوري (آكل لكل شيء)، يعني ممكن أنو يأكل عنب! بس خلينا نتخيل مثلا دب قدامو سلة سمك وسلة عنب، يعني مثلا معقول يقعد ياكل سمك مع عنب؟ أو أنو بيفضل يتسلى بعنقود عنب؟ يعني شو هالطعمة؟
يعني واحد بيقلك: أنت جبت الدب ع كرمك؟ لك إي، وشو بدو يعمل؟ بدو ياكل الكرم؟ معقول هالدب يحط راسو ويبلش بالكرم؟ طيب وبلكي طلعلو شي دبور؟ هلق إذا الدب بياكل عسل وبيعرف النحل، معقول بيعرف الدبابير؟ وما بتفرق معو اذا لبظو (قرصو) شي دبور؟ أكيد المثل بدو تصحيح وإصلاح وتغيير وخلينا نقول مثلا: "حدا بيجيب الدب عَ البايكة؟! (البايكة: حظيرة الحيوانات) يعني أظبط باعتبار الدب حيوان لاحم بالدرجة الأولى بيصير التعبير أقوى. وطبعا هيك ما في تحديد لأنو أي دب هوي حيوان لاحم وبالتالي بيكون في منطق بالحكي. خليني أحكي بلسان الدب (الدب لي حاطط راسو بالكرم) أكيد رح يقول: ولك يا عيني لا تقنعني بالكرم، وتعذبني بالعنقود وحتى لو كان الكرم كلو عنب "صابيع عروس" (بتكون حبة العنب طويلة ومستقيمة، تشبُّهًا بجمال أصابع العروس) بفضّل آكل سمكة وحتى فقمة لك إي أريحلي من وجعة هالراس.
يعني لا تفيق الدب برمي الحجر وخصوصًا أنو الدب بينام وعندو سبات، يعني إذا كان شبعان ما بيقرب ع حدا وبلاها هالزلومية، لأنو إذا وقف الدب (ولو كان طولو 140 سم) ممكن يعملك صلاطة وإذا طلع ابن حلال بيعملك شقف مرتديلا.
المصادر: ويكبيديا العربية".
هُنا ينتهي مقالُه. سلمت يداه ودامَ قلمُه وإلى مزيدٍ من البحث والكتابة...
وليسمح لي كاتبُنا العزيز أن أشمّر عن ساعديّ لأحرثَ قليلاً في أرضِه الخصبة:
منهجيّة البحث لغةً جيّدة تراوحت بين استخدام الفصحى والعاميّة، وهذا حسنٌ في نظري فملامسة الفلكلور (المثل هنا) يتطلّب الكثيرَ من العناية، وخاصّة أنّه منقولٌ إلينا في غالبيّته العظمى باللهجات العربيّة السّائدة في بلداننا اليوم، وقد يُرغم الكاتبُ أحيانًا على التعبير عن أفكارِه بلهجة المثلِ ذاتِه زيادةً في الإيضاح وتبسيطًا في الشّرح. وفي الوقتِ عينِه يُرجى منه أن يحرّك بعض الكلمات المتداولة بين العامّة فالعربُ يشتركون بالفصحى لكنّهم يختلفون في المتداول لفظًا وكتابةً. فإن رامَ الكاتبُ توجيه حديثه إلى جميع الناطقين بهذه اللغة وُجبَ عليه ما ذكرنا في دقّة كتابة الألفاظ وشرحها أحيانًا، وهو ما نراه في متن المقال أحيانًا بين قوسين.
في ختام المقال لفتَ إيهاب نظرَ القارئ إلى المصدر الذي استقى منه معلوماته في كتابة المقال، وهو موقع إلكترونيّ شهير درج الكثيرون على العودة إليه في قراءة سريعة تفيد اختصار الوقت وعناء البحث الطويل: "ويكيبيديا العربيّة". وكانَ عليه ههنا أن يذكر المفردات التي شرحتها الموسوعة الإلكترونيّة، والتي استعملها لإغناء المقال. فكيفَ للقارئ أن يعرف ماذا استفادَ الكاتبُ من الويكيبيديا، وماذا كانَ عملاً خاصًّا به؟!
إنَّ تحليل المثل الذي قامَ به إيهاب لم يراعِ واقع المثل بالذّات، بل نهجَ في تفسيرِه واقعنا اليوم، وهو في الحقيقة نهجٌ لا يتناسبَ مع واقع الأمس، ويخالف أيضًا البيئة التي نشأ فيها المثل والأسباب التي دفعت العامّة إلى إطلاقِه. فانغماس الكاتب في تحليل مادّة "الكَرْم"، أي العنب، ومدى تلاؤمها كطعامٍ نافعٍ للدبّ لا يفيد في توضيح المثل الذي لم يتطرّق البتّة إلى "العنب" بل إلى "الكَرْم" وهو بيتُ القصيد.
يأتي المثل في صورةٍ مختصرة مكوّنة من أربع كلمات وحرف جرّ بلفظٍ عامّيّ: "حَدا يْجيْبْ الدبّ عَ كَرْمو؟" وبتحويله إلى الفصحى يُصبح "هل مِن أحدٍ يجلبُ الدبَّ إلى كَرْمِهِ؟"، مع ملاحظة استبدال حرف الجرّ "على" بـ"إلى" بما يوافق فعل "جلبَ"! ويقصدُ المثل في معناه: "هل من عاقلٍ يجلبُ الخرابَ إلى نفسِه"، وضمن هذا التفسير يتّضحُ عملُ الدبّ.
يرتادُ الكروم عددٌ من الحيوانات والطيور والحشرات أهمّها بنات آوى والثّعالب والأرانب والحجل وديكة البور والدبابير والنحل وغيرها الكثير... ومنها الدببة طبعًا، وإلا فلا معنى للمثل! وللإجابة على المنطق الذي اتّبعه إيهاب في تفسير المثل واستخلاص خطئه "منطقيًّا"، نتساءل: لماذا لم يخترْ أجدادُنا من بين كلّ تلك الحيوانات سوى الدبّ؟! لماذا لم يقولوا مثلاً: "حدا يجيب بنت آوى عَ كرمو؟" أو الثعلب أو الأرنب... ؟! مع أنّ بنات آوى على كثرتها تأكل من الأعناب ما يفوق أكل الدبّ منها بكثير. فهي لا تقتات منها لتشبع تمامًا كالدبّ الذي يأكل منها تلذّذًا بحلاوتها لا للشّبع، فجميع تلك الحيوانات والطيور لا تأكل العنبَ كوجبةٍ أساسيّة بل على أنّه "أنتيباستو" (ما يسبق الطّعام)، أو "ديسّيرت" أي ما يلي الوجبة الرئيسيّة. ويجب أن نذكرَ ههنا أنّها قد تلجأ إلى أكله كطبقٍ رئيسيٍّ إن لم يتوافر لها غيرُه. إذن، أين تكمن المشكلة في المثل؟! في الحقيقة لا توجد أيّة مشكلة في منطقيّة المثل ومفرداته، والمسألة التي ابتكرها الكاتب ليظهر المثلَ على أنّه مثلٌ ينقصه المنطق غير صحيحة لأنّها استندت في منهجيّة تحليلها إلى "العنب" وغفلت "الكرم"!
إنَّ الدبّ حيوانٌ ضخمٌ بطيء الحركة ثقيلها بالنسبة إلى بقيّة الحيوانات البريّة التي تصغره حجمًا، ولنتخيّل معًا حيوانين يدخلان الكرم أحدهما بنت آوى والآخر دبّ. تستطيع بنت آوى أن تتنقّل بحريّة بين أشجار الكَرْمِ، ويُمكنها أن ترتقي الأغصان الأولى دون أن تتسبّب بأيّ ضررٍ للكرمة (شجرة العنب)، فهل يفعل هذا الدبّ؟! بالطّبع لا، فإنّ الدبّ إذا ما حاول انتزاعَ العنب فإنّه ينتزع مع العنقود غصنَه، وإذا ما شاءَ أن يجلسَ ليتلذّذ بديسّيرته فقد يهشّم الكرمة بأكملها، ويكفينا أن نتصوّرَ دخولَ دبٍّ إلى كرمٍ يطأ أشجارَه وينتزع أغصانَه ويهشّم هذه وتلك، خرابٌ بعينِه! فإذا ما وصلنا بين هذا المعنى "الواقعيّ" والمعنى الذي يقصده المثل لتطابقا تمامًا. فأنت حين تضربُ هذا المثل فإنّك تعني: "هل من عاقلٍ يجلبُ الخرابَ إلى نفسِه ودارِه؟"!
وعلى إشارة من أحد الأصدقاء يعيد المرء طرحَ سؤال آخر: وما الذي يدفع الدبّ إلى ولوج الكرم؟! ألعلّه العنب؟! يذكر إيهاب أنّ الدبّ حيوانٌ لاحم وهذا صحيح، ويقتات أيضًا من العسل... ومَن يحيا في المناطق التي تنتشر فيها الكروم يعلم أنّ منازل أصحابها تقع في طرفها الأعلى، وبالقربِ منها تقع حظائر المواشي وأقنان الدواجن، بالإضافة إلى المناحل في الطّرف الآخر. فإذا ما رامَ الدبُّ وجبةَ شاة أو دجاج اجتازَ الكرمَ فأفسده وخطف ما يُريد، والأمر سيّان بالنسبة إلى العسل... وفي جميع الأحوال إنّ دخول الدبّ إلى الكرم يحيله إلى خرابٍ إن شاءً لحمًا أو تحليةً...
محاولةُ تفسير عادات الشّعوب وأقوالها، طريقٌ صعبٌ وشائك، يحتاجُ فيه المرءُ أوّلاً إلى فهمٍ كافٍ للمجتمع الذي نشأ فيه المثل، وإلى تصوّرٍ واضح للبيئة التي وُلِدَ فيها. إذ لا يُمكن تفسير مثل الأمس باستخدام أدوات اليوم فلكلّ زمانٍ أدواته ولكلّ بيئة وسائلها. وكما قدّمَ لكم صديقُنا الكاتب نصيحةً في ختام مقالِه، أنصحُ لكم أنا أيضًا بألا تحضروا إلى كرمِكم لا دبًّا ولا بنت آوى، فكلاهما عزيزان عليكم: الكرمُ والعنب!