بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104].
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:174-175]
وقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16]
قال ابن كثير في تفسيره:
(أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم أنه: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} أي: طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة،....وينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أنجب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى))[البخاري ومسلم].
وفي رواية: ((كرجل واحد، إِن اشتكت عينُهُ اشتكى كُلُّه، وإِن اشتكى رأسُهُ اشتكى كُلُّه)) [مسلم].
سنتحدث اليوم:
(أخلاقيات الأزمات).
الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاق، ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، ومن حسَّن خُلقه أغاظ عدوه، ومن ساء خُلقه عذّب نفسه، وإن العبد ليبلغ بحُسن خُلقه عظيم درجات الآخرة، وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وعادة ما تكشف الأزمات عن المعدن الجيد للناس، ولئن كنا مدعوين دائماً للتحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن مساوئها، فنحن في الأزمات أشد حاجة لهذا التحلي والتخلي.
سنتعرض اليوم لأخلاق ثلاثة أراها مهمة جداً فيما تشهده بلدنا هذه الأيام:
أيها الإخوة:
في الحادي عشر من آذار الماضي ضرب زلزال مدمّر قوته تسعة درجات بمقياس ريختر اليابان، وهو أعنف زلزال يضرب اليابان في تاريخها، تبعته موجات المد (تسونامي) الذي اكتسح السواحل اليابانية وتجاوز ارتفاعه عشرات الأمتار .
ويقول المراقبون نقلاً عن وكالات الأنباء اليابانية: إن حصيلة قتلى الزلزال فاقت الأحد عشر ألفاً، بينما زاد عدد المفقودين عن ستة عشر ألفاً، وتشرّد مئات الآلاف عن منازلهم وقراهم، وقدّر البنك الدولي الخسائر بخمس وثلاثين ومائتي مليار دولار.
وزاد الأمر سوءً العطل المفزع الذي أصاب مفاعلات توليد الطاقة النووية، وأدى إلى حدوث تسربات إشعاعية.
ولَحَظ المراقبون -باهتمام- أخلاقيات عالية لكثير من اليابانيين تبدّت في هذه الأزمة الشديدة والخطب الجلل، جدير بنا أن نفيد منها؛ إذ طالما دعانا إليها إسلامنا وإيماننا، ويدعونا إليها العقل والمنطق، فكان مما قاله المتابعون:
يرى الناظر الهدوء الجم المفعم بالبكاء الغزير؛ حيث عبّر اليابانيون عن أحزانهم بهدوء وكرامة وعزة نفس، فلا هلع ولا جزع، إذ لم يواجهوا الأزمة بالصراخ الهستيري أو اللطم والعويل، أو بشق الجيوب وبضرب الصدور...
ولما ظهر عدم الهلع في الناس ظهر في وسائل الإعلام؛ حيث لم تلجأ إلى التهويل ولا إلى التهوين من حجم الكارثة، بل كانت التقارير الإعلامية متّسمة بالهدوء والموضوعية.
ولم تنشر أخباراً تزيد من هلع وخوف المواطنين، ولم تبث الإشاعات لأهداف خاصة، بل قامت بدورها الوطني الجاد في مواجهة الأزمة وتوعية المواطنين.
ثم إنك لتقرأ منهم درساً في الأمانة، حيث لم تشهد المناطق المنكوبة في اليابان أية حوادث للسلب والنهب أو السطو المسلح، أو نهب للمصالح الحكومية أو المجمّعات التجارية، بل إن مرتادي أحد الأسواق التجارية عندما انقطع التيار الكهربائي قاموا بإعادة ما كانوا قد التقطوه من مشتريات وأعادوها بهدوء إلى الأرفف قبل مغادرة الأسواق.
وكنت ترى التراحم والتعاون بين اليابانيين واضحاً في الأزمة، فقد كانوا يكتفون بشراء احتياجاتهم المباشرة من الغذاء ومياه الشرب، وكان كل منهم يحرص على أن يتمكن رفاقه وجيرانه من تأمين احتياجاتهم، بحيث تكفي تلك المواد للجميع، لم تشهد نفاداً للسلع في المتاجر ولا ارتفاعاً في الأسعار، بل على العكس فقد تطوّع مجموعات من الشباب الياباني للمساعدة وإغاثة المنكوبين بما يحتاجون إليه من الماء والغذاء والتراحم بين أفراد الشعب كله، وبادرت بعض المحلات والمطاعم إلى تخفيض أسعارها، وقدَّم بعضها الوجبات مجاناً للمحتاجين، وحرص القادرون في كل منطقة على تفقد جيرانهم وتأمين احتياجاتهم.
أيها الإخوة:
أخلُص مما قرأت عليكم من تقارير المراقبين إلى الأخلاق الثلاثة التي أريد أن أبسطها بين أيديكم من أخلاقيات الأزمات:
الخلق الأول: عدم الهلع:
يقول الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22]
قال المفسرون: الهلوع: من الهلع، وهو أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه، فسَّرتها الآيات بأنه إذا مسَّه الشر جزوعاً، أي: إذا أصابه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأَيِس أن يحصل له بعد ذلك خير.
وإذا مسه الخير منوعاً: أي: إذا حَصَلَت له نعمة من الله بَخِل بها على غيره ومنع حق الله فيها.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع)).
وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)).
فمن أدب المسلم عامة، وعند الأزمات خاصة عدم الهلع، بل الصبر والهدوء وسكون القلب واطمئنانه إلى قضاء الله وقدره.
وإنه ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ((إنَّ رُوح القُدسِ نَفَثَ في رُوعي أنه لن تَمُوتَ نفس حتى تستكمل رِزْقها وأجَلَها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن الله لا يُدرَك ما عنده إلا بطاعته)) [أبو نعيم وعبد الرزاق].
وإنه ليذكر قول الله سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 51]
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]
الخلق الثاني: الأمانة:
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء : 58]
ويقول سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إنه لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) [الطبراني وأحمد]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) [أبو داود والترمذي]
وتذكرون أيها الإخوة: هجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وكيف خلّف وراءه سيدنا علياً رضي الله عنه وأمره أن يؤدي أمانات قريش التي أودعتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها، ثم يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت الأمانة محمودة مطلوبة دائماً، فإن حاجة الناس لها في الأزمات أشدّ وأكبر، فليس من خلق المسلم أن يعدو على مال أخيه، ولا أن يعتدي على مال عام أو خاص، ولا أن يضر بممتلكات عامة أو خاصة، ولا أن يأكل أموال الناس ظلماً، فلا يعطي مستحقي دفعات الديون التجارية حقوقهم بذريعة الأزمة -وهو قادر أن يعطيهم-.
الخلق الثالث: التراحم والتعاون:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يرحمهم الرحمن، ارحَمُوا مَن في الأرض، يرحمْكم من في السماء»[الترمذي].
كتب بعض من عاش أيام الأزمة في اليابان:
(عندما كنت أسير عائداً إلى المنزل رأيت سيدة مسنّة تقف أمام أحد المخابز، كان المخبز مغلقاً ولذلك وقفت المرأة توزع الخبز مجاناً على المارة، وفي مكان آخر في الطريق كانت هناك سيدة تحمل لافتة كُتب عليها: (الرجاء استخدام المرحاض لدينا)، وكانت قد فَتحت منزلها للناس الذين شردهم الفيضان أيضاً والزلزال لاستخدام الحمام، وأراد زميلي في العمل تقديم المساعدة بطريقة ما، حتى لو كانت لشخص واحد، فكتب لافتة: إذا لم تكن تمانع في ركوب دراجة فبإمكاني إيصالك إلى منزلك وقد وقف في البرد حاملاً هذه اللافتة.
وبسبب نقص البنزين فإن محطات البترول معظمها مغلقة، أو عليها طوابير طويلة جداً، قلقت كثيراً حيث كان أمامي خمس عشر سيارة، وعندما جاء دوري ابتسم العامل وقال: بسبب الوضع الراهن فنحن فقط نعطي وقوداً بقيمة ثلاثين دولاراً لكل شخص، فهل توافق؟ أجبت: بالطبع أوافق، وأنا سعيد لأننا جميعاً نتشارك في تحمل هذا العبء، تبسم لي العامل ابتسامة أشعرتني بالراحة والطمأنينة وأزالت قلقي).
عدم رفعك للأسعار في الأزمات تراحم وتعاون.
عدم احتكارك للسلع في الأزمات تراحم وتعاون.
عدم شرائك لما لا تحتاجه الآن في بيتك وعدم تكديسك المواد الغذائية في بيتك تراحم وتعاون.
تخفيض الأسعار في الأزمات تراحم وتعاون.
مد يد العون للمحتاجين في الأزمات تراحم وتعاون.
معاونة الضعفاء تراحم وتعاون.
تقديم الخدمات وقضاء حاجات الناس تراحم وتعاون.
ولن تؤمنوا حتى تراحموا، ومن لا يَرحم لا يُرحم، ولا تُنزع الرحمة إلا من شقي.
أيها الإخوة:
عدم لهلع، الأمانة، التراحم... أخلاق ثلاثة مهمة جداً في الأزمات.
والحمد لله رب العالمين
منقول من موقع الدكتور محمد خير الشعال