بداية لابدّ من تحديد ما المقصود بالفكر التّكفيري، ولا سيّما أنّه، بحسب ما يقول أصحاب أحد مذاهب ذلك الفكر، أنّهم يستندون في أحكامهم، ورؤاهم إلى القرآن الكريم، القرآن الذي هو كتاب جميع المسلمين على اختلاف اجتهاداتهم.
ومادام الكتاب واحداً فإنّ المفترض أن يكون ذلك عامل جمْع لا عامل فرقة وإباحة دماء، وعند هذه النّقطة لابدّ من ملاحظة أنّ الكتاب واحد والفهم متعدّد،في عدد من الأمور، والتّعدّد غنى، ولقد عُرفت التّعدّدية في هذه الأمّة إبّان زهوة تفتّحها، فكان يجلس في مجلس الخليفة المتألّه، والملحد، وأصحاب الفرق، والملل والنِّحَل، ويتناقشون دون أن يخشى أحد منهم على رقبته، أو على نزع لسانه من قفاه، وكان ذلك تعبيراً عن الرّوح الحضاريّة لهذه الأمّة، ولو لفترة قصيرة. أمّا (التّعصّب) الذي جاء فيما بعد فقد أورثنا الكثير من الاضطهاد والاضطهاد المضادّ، وأُدخل هذا المجتمع في دوّامة مازلنا نحصد العديد من آثارها حتى الآن، فثمّة بيننا، وإن على قلّة، مَن ينظر إلى مذهب مُحاوره، أو دينه، لا إلى ما يقوله!
2
على ضوء ما بأيدينا يمكن القول إنّ الفكر التّكفيري هو كلّ تفكير يرى أنّ الحقيقة محصورة فيما يعتقده، وأن لا حقيقة خارجه، وأنّ كلّ من يخالفونه هم من أهل الضّلال، بمعنى الضّلال الدّيني، وبمعناه الفكري، ويصرّ على قولبة النّاس بحسب مقاساته الخاصّة، وهي مقاسات من وضْع البشر، لا من وحي ربّ العالمين. ولا يتورّع عن الإفتاء بقتل مخالفه بواحدة من صيغ الاغتيال، وهكذا يجتمع له التّكفير والقتل. ولعلّ من غرائب هذه الساحة أنّ صاحبها يرى نفسه سوف يؤجَر على قتل عباد اللّه، ضارباً عرض الحائط بمضمون الآية الكريمة (من قتل نفساً بغير نفسٍ فكأّنّما قتل النّاس جميعاً..).
3
بهذا المعنى لا يقتصر الفكر التّكفيري على مجموعة، أو مجموعات دينيّة معروفة، اشتُهرت باسم الجماعات التّكفيريّة، وهؤلاء إذا كانوا هم الأشرس، وأنّهم قد خُصّوا بتلك التّسمية، فإنهم ليسوا وحيدين، فثمّة مَن يحمل الجينات ذاتها وهو لا يلبس الجلاّبيّة القصيرة، ولا يضع (الطّاقيّة) على رأسه شارة من شارات الدّعاية والانتماء، ولا يُحلّ تقطيع الجثث بالسّاطور، بل يلبس البدلة الإفرنجيّة، وقد يتباهى ربّما بأناقته الغربيّة، وباتّصاله الثقافي المعاصر. وهو من حيث النّتيجة، ومن حيث التّشدّد، ومن حيث إطلاق الأحكام، لا يختلف عن صاحب الجلاّبيّة القصيرة.
وإذا كان الظّلامي التّكفيري يُشهر ساطوراً، أو خنجراً لقتلك لمجرّد أنّك تختلف معه في أمر، فإنّ الآخر الأنيق، لا مانع لديه من أن يقتلك، ولكن بأسلوبه الخاص. وكم من القتلى ممّن نعرف، لمجرّد أنّهم كان لهم رأيهم الذي ظنّوه محترماً،وهذا غير مقصور على الساحة الفكريّة بل هو يشمل، من حيث النّتيجة، ساحة الحياة ككلّ، فثمّة شهداء أودى بهم سوء النيّة في الخيارات الاقتصادية النّهّابة، وثمّة من قتلته الأوامر الإداريّة الملغومة، و..و...و...
4
لنلاحظ أنّ المناخات التكفيريّة لا تساعد على تفتّح الإبداع، وأنا لا أعرف حتى الآن شاعراً، أو موسيقيّاً، أو فنّاناً تشكيليّاً، أو أيّ مبدع قد اشتُهر أنه من أهل تلك الأفكار، وهنا أعني التّكفيريّين الطّائفيّين تحديداً.
لنقل إنّ من نعنيهم يتشدّدون،- هذا إن لم يحرّموا، أن يستمع النّاس إلى الموسيقا، والرّسم محرّم، فما بال الشعر الذي هو سمة في هذه الأمّة منذ ما قبل الإسلام حتى الآن؟!
إذن التّكفيريّة بهذا المعنى أيضاً هي الانغلاق، وإغلاق الباب بحيث لا يرى أيّ نور، والزعم بأنّ ما هو عليه وحده الحقيقة، وما عداه محض ضلال أو هرطقة،
لعلّ اللافت، خارج الإطار النّظري، أنّ بعض الظلاميّين التّكفيريّين يقبلون بالالتقاء (سياسيّاً) مع أناس يعرفون جيداً أنّهم من أصحاب راية الإلحاد، أو مابين بين، أو ممّن لا علاقة لهم بالتّديّن المتعارف عليه بين النّاس، وقد يُبرّر ذلك بأنّه للضرورة، وتلك سمة الأحلاف، غير أنّها سمة غير أخلاقيّة لأنّها تعتبر ذلك جسراً للعبور. ونذكر (الأخلاقيّة) هنا من منطلق أنّ الدّين بعامّة يركّز على القيمة الأخلاقيّة كثيراً، (إنّما بُعثتُ لأُتَمّم مكارمَ الأخلاق)، وقد لا يُطلب هذا من السّياسي غير المتديّن، لأنّ ميدانه السياسة، لاسيّما أنّ المفهوم الذي عُمّم عن السياسة أنّها فنّ الممكن، دون أيّ ذكر للأخلاق، فإذا تمكّنت القوى التّكفيريّة من وضع يدها على السّلطة فلن تتأخّر في قطع رقبة من يجاهر بما يخالف اعتقادها، وتعدّ ذلك واجباً شرعيّاً، وإذا كانت لعبة التّكاذب السياسي معروفة في بعض ميادين ذلك النّشاط، فإنّها لا تجد تلك الرّحابة، أو هكذا يُفترض، عند من يزعمون أنّهم (خير) من يمثّل ذلك الاتجاه الديني!
5
هنا لابدّ من الفرز بين مَن يختار الطّريق الدّيني، و.. من يأخذ طريق فلسفة أو نهجها،
الذين أخذوا طريق الدّين اكتفوا بالاجتهادات المشكّلة لذلك الأساس، وهي عند التّكفيريّين ترتكز إلى ما كتبه ابن تيميّة، وما تركه محمد بن عبد الوهّاب، مؤسّس الوهّابيّة،ومن سار على نهجهم، وهنا أيضاً أستعير ما سمعته من الدكتور محمد حبش الذي قال إنّ ابن تيميّة لم تحتمل دمشق أفكاره، إبّان حياته، وقد سُجن فيها، ونزح فكره الذي رفضته دمشق إلى الصّحراء.
قبل المتابعة من المهمّ ملاحظة أنّ المذاهب الإسلاميّة الخمسة الكبرى المعروفة في الإسلام ما قامت بحدّ السّيف، بل ثمّة ما يؤكّد أن بعضها كان ملاحَقاً، أو شبه ملاحَق من السّلطة الرّسميّة، ورغم ذلك فقد ترسّخ المذهب وامتدّ. أمّا (الوهّابيّة) فقد انتشرت بقوّة الغلبة والسّلاح، فهي توءم تلك الحركة الموصوفة تاريخيّاً، ولذا لا نزال نشاهد كيف يسعى البعض لنقلها إلى بلدان أخرى خارج مناطق سيطرتها، معتبرين ذلك نجاحاً دينيّاً بقدر ما هو سياسي.
ويُلاحظ مدى التّشدّد التكفيري منذ البداية، حتى لكأن تلك العقيدة وُضعت لتكون منصّة إطلاق سياسيّة قابلة للتّمدّد حين تواتيها الظّروف، ومن المعروف أنّ الوهّابيّة تفارق المذاهب الإسلاميّة الأخرى مفارقة بلغت حدّ تكفير مَن يستشفع بالرسول(ص)، أو من يزور قبر وليّ صالح، وهذه المدرسة التّكفيريّة هي التي أنتجت ابن لادن، وإليها يستند جماعة طالبان، ويعرف الجميع أنّ الجهة التي أوجدت هذا التّيّار، ورعته، وغذّته، هي المخابرات المركزيّة الأمريكيّة، ولا يُلغي هذه الحقيقة الافتراق الذي حدث فيما بعد، فقد عوّدتنا الأجهزة الغربيّة على التّخلّي عن أقرب المقرّبين حين يعتصرونه حتى النّهاية، لينتقلوا إلى مخدوع آخر.
6
لا أريد أن أقيم موازنة بين الظّلاميين الدّينيّين وآخرين ينطلقون من الأساس ذاته، وهو الزعم أنّ ما يراه، أو ما يعتقده، وحده الحقّ، أمّا ماعدا ذلك فالبون شاسع جداً، فقد قامت دول المجتمع الأوربي الحديثة على أسس قانونيّة ارتضاها المجتمع، وهي قابلة للتّعديل والتّبديل بما يتناسب مع التّطوّرات المجتمعيّة. ووُصفت الدولة بأنّها دولة علمانيّة، أي غير دينيّة، فازدهرت الفنون الإبداعيّة حتى أصبحت أوربا قبلة نظر المبدعين في العالم، وساعدها على ذلك تفوّقها التكنولوجي، وسيطرتها الاستعمارية، قديماً وحديثاً.
أمّا التّكفيريّون الذين ينسبون أنفسهم للإسلام، فإنّنا نستطيع القول باطمئنان كبير، قياساً على ما يستندون إليه، ويجنحون نحوه، إنّهم لن يسمحوا أن يكون للإبداع نصيب في حياة النّاس، وما زال في الذّاكرة إصرارهم على تدمير تمثال بوذا في أفغانستان، رغم تدخّل العديد من الجهات السياسيّة والثقافيّة، فهم يفصّلون الحاضر، أو المستقبل على مقاس ما في الماضي الذي انتهى منذ أزمنة بعيدة، أو على مقاس رؤيتهم القاصرة المحدودة، والزمن لا يرجع إلى الوراء.
7
إنّ ما سبق، آخذين بالحسبان الظروف السّاخنة التي مررنا بها، يوجب أن نركّز على قيمة أن يكون الانتماء إلى الوطن هو الأساس، لأنّ المذهب ليس وطناً أصلاً، وأن نعيد رفع شعار النّهضة الذّهبيّ (الدّين للّه والوطن للجميع)، وأن تكون الديمقراطية، والتّعدّدية، أساسين متينين في نشدان تدعيم مواجهة المشروع الصهيوني الغربي، والإصرار على العدالة الاجتماعية، وعلى تكافؤ الفرص، وسيادة القانون، وترسيخ مبدأ المواطنة، وأعتقد أنّ التّكفير بعامّة، بكلّ مظاهره، لن يجد المناخ المناسب لنموّ بذوره في إطار مجتمع ديمقراطي، متعدّد، يتمسّك بالعدالة الاجتماعية، فالتّطرّف الأعمى ينمو بسرعة شيطانيّة في بؤر العتمة، لا في رحابات النّور.