الليل فجأة ، وكأنما وحش رهيب انقض على سماء وحدته وعزلته التي يعيشها منذ زمن وباتت ملازمة له كظله حيثما تنفس أو حتى تجشأ الآلام، قابضا على أخر الألم.
لم يشكل الأمر لديه أية صدمة ، بل كانت أبوابه مشرعة بانتظار القادم ، يحمل الأمل بالخلاص.. فالليل والوحدة مكونان لمفردات حياته، التي قضاها باحثا عن روح.
فالنور لديه مجرد مادة خصبة للنوم، والانفلات من زجرات الحياة المفعمة بآثار القيد، الذي حفر مجراه عميقا في النفس.
فالطبيعة المغمسة في حياته، لم تعد سوى وردة ذابلة، وظلال أحلام كانت قبل الآن وارفة، لأشجار باسقة، تروي مأساة السنين، وآلام نفثت سموم رياحها لتأكل كل شيء جميل وغير جميل!
هي ذات النفس البشرية الموغلة بنهم في التهام كل شيء فلا مكان في قاموسها لتصنيف نباتي وحيواني، تماما كما القارضة التي تأتي على كل شيء هذه إذا الحياة.. يخطئ من يسبغ وجهها بوصف ، أو أن يسمها بوسم يجعل المعنى يستقيم!؟
فالجمال والقبح مفردات لأغوار النفس، وحالتها الميكانيكية ، ولا علاقة لها مباشرة بدينامية الحياة، وبيولوجيا الكنه والحالة.
هذا هو يفيض فمه بابتسامة عريضة، تحمل معنى الصرخة دون صراخ وتذكر بالشوق المريع للضحك؟؟ّ تحمل سوداوية الذات تجاه النفاق، وبياض القلب ، لا يجمع بينهما سوى الحالة السريرية للموت.
فالجسد مسجى على لوح الحياة ، يتحرك بفعل الآدميين الأحياء الذين تنادوا جميعا للتشييع، في موكب مليء بالوثن والنتن المتبخر من الأرواح. مكبل بحدود الواجب ، متسخ بالنفاق ونتف القبح والقذارة، فضحتها دموع النساء المنسابة بجانبه بعهر شديد.
فقبل لحظة كانت سموم حبهن تودي بهذا القتيل. فيما شجن النحيب يعلن الانتصار على الحب.
فربما الخطأ في توصيف المشهد، إذ علينا أن نحسن الظن بأنهن جئن لتقبل التهاني بالانتصار على العشق المقتول.. فهذا النصر اللا إلهي المقنع بالعند والكره واستحضار ذكريات نزعن عنها ذات يوم وكأنما تم توفيرها لاستدرار الدموع في هذا المشهد المهيب.
وحده المسجى يعرف بواطن الأمور ، يشيح بابتسامة الخلاص،مستوحيا في فراغ ذاكرته ، عنف البحار وجبروتها ، على لفظ زبد اللؤم والنجاسة الذي علق بقفاه يوما دونما وصول إلى قلبه الذي انفرط عقده رفضا لاحتلال بغيض.
لم يعد يملك من أموره حولا ولا قوة، لمقاومة ربط فكيه بإزار لإخفاء بشاعة فمه المفتوح، دون إدراك من الجميع انه كان يبتسم؟؟! فالعرف والتقليد ومراءاة الناس أولى من الابتسامات وانفراج الأسارير.
هي مسألة وقت قصير .. هكذا أوحى إليه ملاك الموت، وستغادر عالم النساء والقتلة ، والجميلات بلا قلوب صرعتهن القباحة، النائمات في ألق النكد ، أبدلن مفردات الوقت من دقائق وثواني إلى سبحة تطوف بحباتها اصايعهن بانتظار اللحظة الأخيرة، فلا مكان هنا للساعة الرملية كمعيار للخلاص بل التوجب (الآن فقط عرفن الواجب) هو إطلاق تسبيحات النهاية، والكل يسبح والكاهنة تجميع في سبحتها الألفية أعداد التسبيح.
تبا لكنّ..
يكاد يصرخ من كفنه.
وأزيحوا أيديكم الملغمة بالحقد والانبهار.
أنا أكثر نقاء من دنياكم..؟
كانت تلك آخر الكلمات يلقي بها في الوجوه المبتسرة من جوانب نعشه الجميل.
إنه انتحار آثم..
هكذا وصله صوت الغراب الذي عاش في كنفه سنين.
وبسرعة البرق تنتفض جوارحه :
نعم
فالإثم أني لم أتبرأ منك حيا ، فكيف في لحظة الموت!!؟
وان أطلق سهامي تجاه كل سكنة في قلبك ،
والإثم أن تقهقه بالنحيب.. وتتلذذ باقتطاف العشق وتنضده في سلة الغدر !
وبعد أتسمي نفسك حبيب؟؟.
هي صورة بائسة ، كحالنا التي ننفق حياتنا لنعيشها، دون دراية بخارطة العشق والحب المنيب!؟.
هي لحظة كانت تنتشي فيها برومانسية المشهد، على مسلسل حب في التلفاز ، وتصرخ بوجه الذي يليها آمرة بالصمت الشديد؟؟ .
ها هو الآن مغتبط لأحلامه، ولم يعد بحاجة إلى عين أو أذن أو لسان أو حتى لقلم ودواة ليروي حاله . فقط هو بحاجة إلى وصول قطار الموت إلى المحطة الأخيرة عساه يحظى ببعض النوم ، دون قلب، بعد أن تخلص من الدموع في إناء الاغتسال.
يستعد في مثواه الجديد ، ليفترش الذكريات ، ويستحضر في العتمة يدين طوقتا صدره ذات يوم ، وأصوات أقدام مشت بوعورة الطريق إليه دون وجل.
تراه يملأ كأس خلوده بدموعها التي سفحتها سخية على كتفه ، فبات لها في القبر حيث الظمأ ، مذاق السلسبيل! بعد أن كان لها في الحياة طعم الأجاج... وكأنما الذكرى في الموت تساق إلى محطات تحلية ربانية.
فها هو الآن يشعر أنه المنتصر الوحيد ليخاطب الله بأنه أتاه بقلب سليم، وحفظ عهده بأنها وحدها من قست عليها لأيام كحاله. بأن حبها سيكون شريكه في سكونه الأخير.
قالها .. ونام.؟؟
انتهى
10 حزيران 2011