سانا -الصفحة الأولى - الأربعاء 20-4-2011م
توفي الزميل جورج عين ملك صباح أمس عن عمر ناهز السابعة والستين عاما بعد إجراء عملية جراحية في القلب .
وبدأ الزميل عين ملك عمله الصحفي نهاية الستينيات وعمل في صحيفة البعث بقسم الدراسات السياسية وفي الادارة السياسية وترأس تحرير عدة مجلات خاصة وألف عددا من الكتب.
ما صدقت عيناي ، ولا استوعب فكري للحظات هذه السطور، ولم أجد نفسي إلا والدموع تترقرق في مقلتي , وابنتي تنادي والدتها لتعرف سبب بكائي .
وعادت بي الذاكرة إلى حي من أحياء باب توما يدعى / \\\" سفل التلة \\\" / ، هناك بيت جدي ، حيث ترعرعت ونشأت ، رغم أن منزلنا كان في حي آخر , وفي هذا الحي تعرفت على صديق وأخ نشأ وترعرع فيه ،ومنذ الطفولة التي يبقى في الذهن آثار لها ، أذكر بأن المرحوم الراحل المفكر والكاتب والصحفي جورج عين ملك تميز بحب الحياة والخوض في غمارها ، وبلهفته للمعرفة وبحبه لوطنه ، دخل معترك الحياة السياسية منذ مراحل دراسته الأولى ، من خلال نشاطاته الطلابية والحزبية ، وبعد دراسته وتخرجه من كلية الحقوق في جامعة دمشق ، سافر إلى بلغاريا ليتخصص بدراسة الصحافة والإعلام ، وبالطبع لم يغب عن فكره وأعماله أثناء دراسته ، رفع اسم سوريا وشأنها في المحافل البلغارية ، وبعد حصوله على شهادة التخرج عاد إلى أرض الوطن ، ليمارس وخلال ربع قرن ومن خلال صحيفة البعث نشاطاته الفكرية والإنسانية ، كمحرر وكرئيس لقسم الدراسات السياسية .
وخلال مسيرة العطاء ، تزوج من شابة مثقفة ، السيدة جائدة بشور ، التي شاطرته هموم حياته ومشاكلها ، ومنحهم الله ثلاثة أبناء ، ولا تسل ـ ككل الآباء ـ عن فرحة المرحوم جورج ببناته وابنه ،فهاهي منال الابنة البكر دبلوماسية سورية ، وهاهو جميل وقد انتهى من دراسة هندسة العمارة , وافتتح مكتباً هندسياً , ويمارس أيضاً رسم الكاريكاتير بامتياز ، وهاهي سلاف الصغرى وقد تخرجت من كلية الصحافة والإعلام .
كان المرحوم الكاتب والصحفي جورج يتميز بخصال غلبت عليها كلمة الحق ، في كافة المجالس التي خط فيها قلمه واسمه ، وكان شوقه وولعه بالأسفار والترحال دافعاً ورافداً لحب معرفته وشفافية حقيقته ، بالإضافة إلى إيمانه بديمقراطية المعاملة والتصرف ، إلا أنه أمام كلمة الحق فكان بإيمانه ديكتاتورياً .
وبالإضافة إلى عائلته، فقد ترك لنا أمانة، سكب فيها دم قلبه وفكره، وهي كتبه التي ترجمت إلى اللغات الفرنسية والإنكليزية والأسبانية وهي :
ــ العالم الثالث في الإستراتيجية الغربية ، الواقع والمواجهة ،وطبع عام 1982 في مطبعة الإتحاد .
ـ حافظ الأسد ، القيادة والتاريخ ، وقد صدر في طبعته الأولى عام 1983 عن دار ابن هاني .
ـ دور المنظور الحضاري في إغناء حركة الإبداع العربي ، وصدر عام 1985،عن دار المجد .
ـ السياسة الأمريكية آلية العدوان والتدخل ، وطبع عام 1986 ، وقام بإهدائه إلى أولاده .
وخلال مسيرته الإعلامية وأسفاره الكثيرة ومشاركته في أغلب المؤتمرات العربية والأجنبية ، حصل على العديد من جوائز التكريم والتقدير ، كما أوكلت إليه مهام كثيرة ، في إدارة مجلات وصحف عربية ، بالرغم من رفضه لبيروقراطية المنصب والالتزام ، قاد العديد من الأعمال الفكرية والثقافية .
فقد عمل في جريدة / النهار/ اللبنانية فترة طويلة كمسئول إعلامي وكصحفي ، كما عمل كمدير تحرير في جريدة / الدومري /، وفي الجريدة الرسمية التونسية / لا بريس / ،وأيضاً في مجلة / فارس العرب / ،السورية والتي حفز من خلال صفحاتها المغتربين السوريين للعودة إلى وطنهم والاستثمار فيه ، بالإضافة لدعوته لكافة العرب للعودة إلى وطنهم الأم ، ووضع أموالهم في خدمة بلادهم ، وأيضاً عمل في مجلة / الرواد / السورية ، وصحيفة / صوت الكويت / والتي رشح لإدارتها ، والعديد من الصحف التي ذخرت بكتاباته الفكرية والسياسية ، وكما رشح لمنصب كإعلامي في محطة مونت كارلو ، وقدم للإذاعة والتلفزيون منتج إعلامي وثقافي كبير ، مثل برنامجه الإذاعي / للحقيقة فقط / وكان موجهاً لحكام العراق الشقيق وذلك عام 1972 ، وكان آخر ما أوكل إليه من مهام سياسية وعربية هو مشاركته في مجلة ونادي الإحياء العربي الصادرة عن القيادة القومية .
وحينما أراد هذا المناضل أن يستريح قليلاً من الهموم السياسية ، ورغم إغلاق جفونه ، إلا أن الكرى لم يستطع التغلب على قلبه، قرر إنشاء / تجمع الأصالة للثقافة والفنون / ، والذي أدار من خلاله أعمال كثيرة شفافية وإنسانية ، وشارك في إدارة العديد من المهرجانات العربية ، ونشر الموسيقا العربية والتراث السوري ،وخاصة في التمثيل الدرامي والموسيقا التي برأيه هي عنوان الحضارة ، وقد استطاع أن يمسح غبار الزمن عن تراث عمره آلاف السنين، ليلمع متوهجاً من جديد على مسارح عربية وأوروبية ،ماداً يده للعديد من الفنانين السوريين والعرب للانتشار عربيا وأوروبياً .
ولا أكون مبالغاً ويعلم ذلك الكثيرون ، من أن لدارته قربى مع حاتم الطائي ، فذاك العربي المضياف مع زوجته ، كان مرجعاً للمثقفين وصديقاً وفياً للملهمين ، وكانت مقولته / اعمل ليومك كأنك ستموت غداً ، ولغدك كأنك ستعيش أبداً / ، وترك راحلنا الكبير مخزوناً أدبياً وفكرياً كبيراً ، إلا أنه للأسف لم ير النور ، بسبب كثرة ترحاله وتجواله لتأمين العيش لأسرته .
وكانت الآمال والأمنيات كبيرة ، فأفكار المجتمع المثالي الخالي من العنف والعدوان ، وذكريات أرض الأجداد في ماردين والحلم بالعودة إليها ، كانت تتجدد مع كل انتفاضة جديدة في يطاح فلسطين ، فالألم والشوق والحزن والأسى ، كانوا يتوهجوا كلما هبت رياح العنف في العالم ،وكيف لا والعالم كله في قلبه ووجدانه .
وتوقفت الأحلام ، حين آن لهذا القلب أن يستريح من نبضاته وهمومه ، إذ تسللت المنية عبر مرض ووهن وتعب ، لتضرب بمنجلها رجلاً تميز بإيمانه بالحرية والعطاء ، وعبق الفكر والكلمة الحرة ، وتوقف الحلم بمجتمع عربي مرصوص البنيان والبنية .
اجتمع المحبون والأصدقاء يوم الرحيل ، ومن ثم في يوم التشييع ،ليأكدوا للصديق والرفيق بأنهم على العهد باقون ، وأن تلك الآمال والأحلام تتجدد في نبض قلوبهم ، و أن مسيرة البذل والتضحية والعطاء والتي كان المرحوم جورج من روادها ما زالت مستمرة ، وألقى المطران أرناؤطيان بعد صلاة الراقدين ، كلمة نوه فيها بالخسارة الجسيمة التي لحقت بالكلمة الحرة .
وفي ذكرى الأربعين التي أقيمت الصلاة فيها عن روح المرحوم جورج ، في كنيسة سلطانة العالم بدمشق يوم السبت 28 / 5 / 2011 ، تقاطر الأصدقاء ، ومنهم من لم يستطع المشاركة في يوم التشييع ، حتى غصت الكنيسة وساحتها الخارجية بهم ، ليجددوا عهد المحبة والصداقة والتقدير .
وبعد انتهاء الصلاة ، ألقى المطران يوسف أرناؤطيان راعي أبرشية دمشق للأرمن الكاثوليك كلمة عدد فيها ميزات وأخلاق ومواهب وأعمال الراحل الخالد ،وشارك في تأبين الفقيد لفيف من الأصدقاء ومنهم الإعلامية نسيم الرحبي ، وقام الشاعر فؤاد بركات بإلقاء كلمة توجها بعزفه على الآلة الموسيقية للحن الوداع ، مما دعا الحضور كافة للوقوف تحية إجلال وإكبار للراحل الكبير المنتقل عنهم .
وتقبلت العائلة تعازي المحبين ومشاعرهم الصادقة بخسارة صديقهم، ودعتهم لتناول لقمة رحمة على روح الفقيد الغالي.
ويحضرني هنا أن أذكر بأن الأخ والصديق جورج كان مسئولا في الحرس القومي وخلال حرب حزيران عام 1967 ، عن منطقة طالع الفضة وحي الأمين ، وأن أضيف عن حادثة كنت شاهداً فيها على سعة معرفته ، إذ نوه لي أحد الأصدقاء المشتركين بتحليل أمني عن موضوع ، كان واثقاً من تحليله له ، إلا أنه ولدى إطلاعي المرحوم جورج عليه ، كانت إجابته بأن هذا التحليل خاطئ ، وأوضحت الأيام التي تلت ، مؤكدة حسن رؤيته وسعة فكره وعمق تحليله وصواب إجابته .
وجدت نفسي ملزماً يا أخي جورج بكتابة بعض سيرتك كواجب على قلبي وقلمي ، وهذا أقل ما بوسعي أن أقدمه لروحك الطاهرة ، كيف لا ، وهناك من يذكروك بحسن المعاملة وطيبة القلب ، وصدق الوفاء ، والسمعة الحسنة ، والعطاء الفكري والسياسي بدون مقابل .
كيف لا ، وزوجتك الأديبة والشاعرة أهدتك مع حزنها بعض ما نبض به قلبها وفكرها :
تركت بيتك غصباً والهجر والله صعباً
أحباً دعتك المنون فوهبت للحب قلباً
ولم تجد أمام هول خسارتك سوى الورقة والقلم ـ سلاحك ـ لكي تبثك مع عائلتك محبتها ومحبتهم وشوقها وشوقهم إليك :
وهــذي الرزايــا تذيب عمري وتأسى
والبعد عنك حبيبي يـزيد قلـبـي تعـــسا
قد كنت تسكن قلبي واليوم تسكن رمسا
وكنت للروح سلوى وكنـت للعيـن أنـسا
حبيبي أبكيك دهراً وأرسل الدمع خلسا
قد كنت للبيت ركناً وكنت للبيت أســـا
حبيبي مذ غبت عنا ذبلت جسماً ونفسا
هيهات تلك الليالي تسلونا عنك وننسى
فليكن ذكرك مؤبداَ