news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
أين أنا من موهبتي...بقلم : اياد ريحاوي

أبلغ من العمر سبع وثلاثين عاما الآن، قصتي ليست معقدة كثيرا لكنها مؤلمة، لذلك سأحاول إيجازها قدر الإمكان.


مثل كل شاب سوري درس في هذا البلد اختارت لي علاماتي الجيدة في الثانوية العامة دراسة الهندسة الكهربائية مع أني لم أكن أحب الهندسة ولم أعتبرها طموحي في يوم من الأيام، لكن العرف الاجتماعي السائد وضغط الأهل من جهة والفقاعة الكاذبة التي ترافق الحصول على علامات عالية في الشهادة الثانوية تتيح للطالب أما دخول الطب أو الهندسة (وهي الفروع الأسطورية التي يحلم كل شخص بدخولها) جعلتني أمشي مع التيار وقتئذ وألتحق بدراسة الهندسة الكهربائية ليبدأ مشوار لا ينتهي من التخبط والمعاناة في حياتي.

بالنسبة لي ومنذ أن كنت صغيرا كانت لدي ميول موسيقية واضحة وقد حاولت والدتي في وقت من الأوقات أن تلحقني بمعهد موسيقي خاص بالأولاد إلا أنها لاحظت أني بدأت أفضل الموسيقى على دراستي  ففضلت أبعادي عن هذا النهج  لتتفتح ميولي مجددا أثناء دراستي الجامعية ولأكتشف أني لست مؤهلا من الناحية النفسية والمعنوية حتى أكون مهندسا وإنما طريقي الحقيقي هو في الفن والموسيقى بشكل عام، هنا أيضا فعلت الضغوط الاجتماعية والعرف السائد فعلها إذ كنت على مشارف السنة الثالثة من دراستي الجامعية ولم يكن منطقيا بالنسبة لكل من حولي وأهلي بشكل خاص أن أهجر دراستي الجامعية إلى مجال آخر (خاصة الموسيقى) وهو ما ندمت عليه أشد الندم فيما بعد.

خلال دراستي الجامعية استطعت صقل موهبتي الموسيقية بشكل ممتاز وكنت قادرا على التوفيق بين الدراسة والهواية (وهي لم تكن كذلك في حقيقة الأمر)، أتقنت اللغة الانكليزية بشكل استثنائي أيضا من خلال دراستي في المركز البريطاني لسنوات طويلة.

مضت سبع سنوات حتى تخرجت من الجامعة وكنت قد عزمت على هجر الهندسة نهائيا والتفرغ التام لما أعتبره انتمائي الأساسي إلا أني ووجهت بضغوط عائلية عنيفة جدا خاصة من والدتي التي أصرت على أكمالي ما بدأت به وأنه من غير الوارد وغير المنطقي أن أترك شهادة علمية محترمة وراء ظهري وأتفرغ للعمل في الموسيقى (أو بمعنى آخر في الكازينوهات والمراقص الليلية كما كانت تعتقد(.

خضعت للأمر الواقع والتحقت بوظيفة في القطاع العام الذي يتهالك عليه الشباب اليوم للعمل فيه، ولم يمض عام واحد إلا وأحسست أن روحي تكاد تفارقني لكثرة النفسيات المعقدة التي واجهتها، خلال هذه الفترة لم أفارق الموسيقى ولا آلتي أيضا.

جائتني خدمة العلم ولم أتهرب أو أسافر لأدفع البدل بل التحقت بها وأنا مقتنع أنها واجب علي ككل أبناء هذا البلد لكن لم يخطر ببالي إما لسذاجتي أو جهلي أني سأضطر لنسيان كل ما تعلمته في حياتي لمدة عامين كاملين، كان الضرر بالغا على معنوياتي ونفسيتي.

بعد إنهاء خدمة العلم كنت منهكا فسافرت إلى الخليج أو الجنة الموعودة كما يعتقد البعض وهنا في هذه المرحلة كنت قد وصلت تقريبا إلى اعتقاد (تبين فيما بعد أنه خاطئ) أن الموسيقى ولت إلى غير رجعة وأنها فعلا ليست طريقي وأني يجب أن أتقبل واقعي وطريقي الذي اختارته الحياة لي رغما عني وعن أنفي وسلمت أمري إلى الله.

المفارقة في قصتي أني كنت ناجحا في أي عمل هندسي عملته في حياتي، في الخليج عملت مع أفضل الشركات سمعة وأكثرها احتراما وكنت شخصا قياديا بجدارة، أتحدث الانكليزية بطلاقة وأجيد بناء علاقات عمل ناجحة وقوية، كان لدي كل ما أريد من السيارة الفارهة إلى الراتب الجيد إلى السكن المحترم.

 كان كل ذلك واجهة مزخرفة لبناء مطلي من الخارج بأزهى الألوان لكنه كان أسودا باهتا من الداخل لا حياة فيه ولا أحساس، كنت شخصا ناجحا في الظاهر لكن شيئا حادا كالسكين كان يحز في أعماقي دائما وكنت أقمعه بشدة وساعدني في ذلك ضغط العمل الهائل في الخليج، بقيت أقمع نفسي لأكثر من عامين وبعدها حصل ما كنت أتوقعه إذا أنني وجدت نفسي أعود مجددا الى آلتي الموسيقية وحقيقتي كشخص التي لطالما طمستها بيدي.

كان التناقض صارخا بين ما كان يحصل في عملي اليومي وبين ما كنت أود عمله في حياتي، كنت أتقدم عاما بعد عام في وظيفتي وعملي بل وأصبحت مديرا على مجموعتي وارتفع راتبي بشكل ملحوظ، كان أصدقائي يحسدونني على وضعي، لكني كنت أتراجع معنويا ونفسيا وجسديا عاما بعد عام واعتقادا مني أني أستطيع نسيان حقيقتي صرت أعمل كالمجنون لأكثر من أحد عشر ساعة في النهار وبقي الأمر كذلك لخمس سنوات.

بعد خمس سنوات من النجاح في العمل في الخليج تعاظمت أزمتي النفسية والمعنوية وتراجعت صحتي بشكل حاد وأصبت باكتئاب نفسي ومعنوي رهيب فأشار الأطباء علي بتناول أدوية مضادة للكآبة ورغم تحسن وضعي بعد عدة أشهر الا أنني أدركت أخيرا أني لست هذا الشخص الذي أنا عليه، فقررت أني لن أخدع نفسي بعد الآن وأن حياتي وصحتي هما أثمن ما أملك  فقمت بتصفية أموري في شهر واحد وعدت إلى قاعدتي وبلدي سوريا.

حتى لا أطيل كثيرا لم أستطيع التأقلم مع واقع العمل والحياة في بلدي العزيز بعد خمس سنوات من العمل في الخليج والموسيقى لا تطعم خبزا هنا اللهم فيما ندر، وها أنا ذا أجد نفسي قد عدت الى نقطة الصفر بكل ما أملك من إمكانيات وخبرات وكأن شيئا لم يكن، ولا أعرف ماذا أفعل وأين سأتجه؟

أردت من كتابة قصتي أن ألوم مجتمعي الذي لم يلق بالا لما أحببت أن أفعله في هذه الحياة، أن ألوم نظامنا التربوي والتعليمي الذي لا ينمي مواهب الأطفال ويرشدهم إلى الطريق الصحيح منذ صغرهم  بل ويجبر أبنائه على دخول فروع في الجامعة لا يحبونها ولا تمثلهم لمجرد أن علاماتهم تؤهلهم أو لا تؤهلهم لذلك.

 بينما سارت كل نظم التعليم الغربية الحديثة عكس ذلك حسب ميول ومواهب الطلاب مما يترتب عليه أبلغ الضرر على المجتمع وبنائه الصحيح فيما بعد، أردت أن ألوم أهلي وأهل الكثيرين من حولي الذين يتدخلون في حياة أبناءهم بشكل عنيف وأناني أحيانا اعتقادا منهم أن في ذلك مصلحتهم بينما هم يقومون بتخريب حياتهم ومستقبلهم دون وعي أو إدراك منهم.

شكرا لقراءتكم قصتي.

2010-11-04
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)