إنه لمن المؤسفِ حقاً أن نسمعَ من البعض دعواتٍ لقبول الآخر والتمسك بحرية التعبير والاعتقاد والتوجه، ثم نجد تلك الدعواتِ ممهورةً بطابع الكذبِ والتدليس والنفاق.
رحمَ اللهُ زماناً غابراً ليس بالبعيدِ كان النفاقُ فيه خُلُقاً ذميماً تأنفُهُ النفوسُ الشريفةُ التي تنأى عن الغشِّ والتدليسِ والتلَوّنِ بألوان الطيفِ التي تناسبُ الظروف وتُسايرُ الأوضاع.
أما الآن فقد تبدّل الحالُ، حيث صار النفاقُ سمةً دارجةً وعلامةً بارزةً من علائمِ الجماعاتِ والاتجاهات الفكريةِ والاجتماعيّة والسياسيّة، ولم يسلم من وصمة العارِ تلكَ إلا من رحمَ ربّي, فحضارتُنا المجتمعيّةُ اليومَ حضارة النفاقِ بامتياز.
فهل يخفى على أحدٍ النفاقَ المهيمنَ على إعلامنا المعاصرِ بوسائلهِ المتنوِّعة ! وهل ينكرُ عاقلٌ كذبَ المجتمع الدوليَّ عندما أبطنَ غزو العراق واستنزافَ خيراته وتشدّقَ بأنه سيقدّمُ لأبنائه الورود ! أيختلف اثنان على نفاقه حينَ تظاهرَ بدعمِ الشعوبِ الفقيرةِ والمساهمة بتحقيق الأمن الغذائيِّ في القارّة السمراء، بينما يقوم هو نفسُه بدفن آلاف الأطنانِ من المحاصيل الفائضةِ عن حاجته في البحر سنوياً تجنُّباً لخفضِ سعرها مما قد يؤثر سلباً على رفاهيّة أفراده !
من منّا لا يحفظُ عن ظهرِ قلبٍ شعاراتِ النّفاق – عفواً – بل شعارات الشجب والاستنكارِ والإدانة والتي أصبحت محفورة في صدورنا حتى أكثرَ من أسمائنا !
أيستهزئ المجتمعُ الديمقراطيُّ المزعوم بنا حين يسمحُ للبعض بالنيلِ من رموزنا الفكريّة والحضاريّةِ بحُجّة حريّةِ التعبير، فيما يُحظرُ المساسُ ولو من بعيدٍ برموزِ الآخرينَ ومعتقداتهم !!!
لا مناصَ للمتبصّرِ اليوم بالحضارةِ العالميّة من الإقرارِ بفضلها على الإنسانيّة جمعاءَ، وذلكَ من خلال استثمارِ مواهبِ الأرض ومكنوناتها لصالحِ الإنسانِ المتحضّرِ أولاً، ثم ما تجودُ به من فُتاتِ هذا التّقدم التقنيِّ على المجتمعاتِ الناميةِ ثانياً.
والحقُّ أن التطورَ العلميَّ الحاصلَ لم يشهد له العالمُ مثيلاً، طبعاً مع الأخذِ بعين الاعتبار ما تفرزه تلك الحضارة من محاذيرَ ومخاطرَ قد تودي بمستقبلنا في القريبِ العاجل.
ومن جانبِ آخرَ فإنّ سبراً يسيراً للواقعِ الاجتماعي المادّي يظهرُ لنا الانحطاط الخُلُقيَّ الذي أثمرته هذه الحضارة بصورة فظيعةٍ هي أيضاً لم يشهد لها العالمُ مثيلاً من قبل.
فنظرةٌ عاجلةٌ على الاتجاهاتِ الفكريّة والنظريّاتِ الشموليةِ السائدة تكشفُ لنا وبوضوحٍ الفجوةَ المشتركة فيما بينها، والتي تكمنُ في تغليبِ أحدِ الجانبين ( الروحي والمادي ) على الآخر.
فتحقيقُ المعادلةِ بين الرّوح والمادة، بين المثاليّة والواقعيَّةِ، بين القلبِ والعقلِ، بل بين الذات الدّاخليّة ومعتركِ الحياة الخارجي، قد يبدو مستحيلاً للوهلة الأولى.
وكمثالٍ على ذلك من واقعنا الحديث، نجدُ الشيوعية قد كرَّست جلَّ اهتماماتها بالمجتمعِ ككل، وجعلتهُ الغايةَ للوصولِ إلى العلم والتطوّر، لكنَّها بترت حقَّ الفردِ من حلِّها الشموليِّ هذا، بينما توجّهتِ العلمانيّةُ نحو العلمِ أولاً ولم تهمل حقَّ الجسدِ إطلاقاً ، لكنَّها غفلت كذلك عن بعضِ أطرافِ المعادلةِ وهي الروحُ والمجتمع، وبالتالي لم تظفر البشريةُ إلا بحلولٍ سقيمةٍ غير قادرةٍ على البقاء والاستمرارِ بقيادةِ ركبِ الحضارة بحالٍ من الأحوال.
ولكن لو تأمّلنا الدياناتِ السماويّةَ بنظرةٍ محايدة ، لوجدناها وحدها فقط من حققَ شروطَ المعادلةِ السابقةِ وقدّمت الحلولَ لها دون إغفالِ أيّ طرفٍ من أطرافها أو الانجذاب لطرفٍ ما دون الآخر ، وذلك بغضِّ النظرِ عمّا طالَ تلك الديانات من تحريفٍ أو شابها من محاولاتِ تشويه.
فلقد قدّمت اليهوديةُ الحلَّ المبدئيَّ للإشكاليّة الإنسانيّة بطريقةٍ مبسَّطةٍ تناسبُ إنسانَ ذلك العصر وتجاري ماديته، ثم جاءت النصرانيّةُ لتقرَّ الحلَّ الأولَ وتؤكدَ ما فيه وتضيفَ إليهِ بعضَ اللمسات الرّوحانيّة بما يناسبُ النموَّ العاطفيَّ البشري، وقدّم خالقُ الطرحينِ السابقينِ وموجدهما الإسلامَ أخيراً كصورةٍ نهائيَّةٍ مُثلى ، تُأطّرُ كافةَ الرسالاتِ السابقةِ وتهيمن عليها.
لكنَّ المشكلةَ لم تنتهِ بعد، ولن تُتمَّ البشريّةُ فرحتها بالفوزِ بحلِّ ذلك اللغزِ الذي حيّرها طويلاً، ذلك أنَّ الكِبرَ داءٌ خطيرٌ من أدواء القلوبِ، داءٌ إذا ما حلَّ بقلب شخصٍ طمس عليه فلم يعد يبصرُ الحقَّ، وأجبرَ صاحبهُ على إنكارِ أيِّ قانونٍ يحدُّ من شهواتهِ أو ينسبُ الفضلَ لغيره.
لقد اتّفقت الدّياناتُ السماويةُ كلّها على أنَّ الإله العظيمَ طردَ الشيطانَ من رحمتهِ لمّا تكبّرَ رافضاً الإقرارَ بعدالةِ أحكامهِ والانصياعَ لها، وقد سارَ المتكبِّرونَ من البشرِ على خُطى إبليسَ اللّعين، رافضينَ الإقرارَ بصحَّةِ الحلولِ الإلهيّة والانصياعَ لها.
فبدؤوا بمحاربتها تارةً بقتلِ الأنبياءِ أو محاولةِ ذلكَ، وتارةً بمحاولةِ تحريفها والطَّعن فيها لإزكاء نارِ الفتنةِ بين أتباعها، وتارة بإشعالِ فتيلِ حربٍ علنيّةٍ أو سريةٍ على كلِّ من استمسكَ بتلك العروةِ الوثقى ممن يتشدّقون – هم أنفسهم – بأنهم إخوانٌ لهم في الوطنِ أو البشرية.
ثم ما فتئوا يطوِّرونَ أساليبَ حربِهم الشعواء تلكَ لطمسِ معالم الأطروحةِ الإلهيّة بأيِّ طريقةٍ كانت، فتخبَّطوا بابتكارِ حلولٍ وضعيّة ولكنّها عقيمةً - كتلك التي ذكرتُ أمثلةَ عنها من قبل - وكذلك بابتكارِ صورةٍ مسخيةٍ من توليفةٍ مختارةٍ من التعاليمِ الإلهية مبتورة مشوهة لتوافق أهواءَهُم إلى حدٍ ما، مع إضافةِ بعضِ الطقوسِ الغريبةِ والتعاليم العجيبةِ، ونسبِ الخلطة الجديدة للإلهِ العظيمِ زوراً وبهتاناً.
والفاجعةَ دوماً واحدة، ، فجميعُ نظرياتهم تفتقدُ عنصرَ الصِّحة، ذلك أنّ أيدي البشرِ طالتها بالعبثِ والتخريبِ، فقدّمت لنا جثامين عفنةً لا ينجذبُ إليها إلا الرُّمِّيات من بني جلدتنا، ومردُّها إلى الفناءِ لا محالة.
أو يتشدّقون بتشبيهِ الأطروحة الإلهيّة بثمرة لا بدَّ من نزعِ قشرتها للاستفادةِ من لبّها, ولكنَّ المفاجأة تكمن في أنَّ هذه الثمرةَ مختلفةً عن بقيّةِ الثمارِ، والتشبيهُ مع الفارق.
فما هي حقيقةُ القشرةِ وما هو مداها وأينَ منتهاها ! أهو دين أم تين !!! فأيُّ سطحيّةٍ هذه وأيُّ سذاجة!!!
مع أننا وبالنظر إلى الرسالة الإلهيّة نجدها متراكبةً مترابطة يشد بعضها بعضاً ولا تقبل أي تبديلٍ أو تغييرٍ أو تحوير ، فإن أردنا ولا بدَّ تشبيهَها بثمرةٍ فهي لثمرةِ التوتِ المركَّبَةِ أقرب، فقشرَتُها ملتحمةٌ ولا يمكنِ الاستغناءَ عن أيِّ جُزءٍ منها أو عزلِه عن أقرانه دونَ أنّ نُلحقَ الأذى بكاملِ الثمرة.
وبالعودةِ إلى حضارةِ اليوم - عفواً حضارة النفاق - نجدُ أن للمتكبرينَ فرصةً مثلى لمحاولةِ إطفاء نورِ الإلهِ العظيمِ، فسلاحُهم اليومَ مُدَعّمٌ بعنصرٍ جديدٍ، فهاهم يُظهرونَ استكانةً للمنهجِ الإلهي وانسجاماً خبيثاً معه إلى حدٍّ ما ، ثم يطعنونَ به بكرةً وعشياً، مرةً بدعوى محاربةِ التخلُّفِ والرّجعيةِ، ومرة بحجّةِ عدم قبولِهِ الآخرَ وأخرى لطلبِ تحقيقِ المساواةِ بين الرجلِ والمرأةِ، وعلى هذا الدربِ هم سائرون.
نعم هو حلٌّ كثمرةِ التوتِ، مركَّبٌ من أجزاء عدة لكنَّها متراصّةٌ مع بعضِها البعض، حلٌ قشرهُ ولبُّه سواءٌ، حلٌ إلهيٌ نهائيٌ صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، حلٌ تكفّلَ خالِقُهُ سبحانهُ بحفظهِ هذه المرة من تحريفِ المتكبرينَ وكيدِ المنافقين وبنصرِ من نصرَهُ من عباده المؤمنين ، فخذوهُ كلّهُ أو ذروهُ كلَّه.