لا عجب أن يكون القضاء في أي بلد هو رمز عدالتها ومقياس تقدمها وازدهارها فهو الكفيل بالحفاظ على حقوق الناس والدفاع عنها وهو الضامن للحقوق والواجبات لذلك حرصت معظم دول العالم على تكريس مبدأ الفصل بين السلطات منعا لتضارب أو تداخل السلطات في الدولة بما يؤثر على استقلالية السلطة القضائية وبالتالي يعيق عمل هذه السلطة ويشكل عامل ضغط على القضاة يحد من حريتهم واستقلاليتهم .
وفي الجمهورية العربية السورية كرس الدستور السوري مبدأ الفصل بين السلطات عندما قسم السلطات إلى ثلاثة وهي " السلطة التشريعية – السلطة التنفيذية – السلطة القضائية " وقد عنى الدستور السوري بالسلطة القضائية حيث أكد على مبدأ استقلال القضاء حيث جاء فيه :
المادة 131 : السلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال يعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى.
المادة 132 : يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى ويبين القانون طريقة تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه.
المادة 133 : 1ـ القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون.
2ـ شرف القضاة وضميرهم وتجردهم ضمان لحقوق الناس وحرياتهم.
المادة 134 : تصدر الأحكام باسم الشعب العربي في سورية.
المادة 136 : يبين القانون شروط تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم .
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو إلى أي حد تم احترام مبدأ استقلال القضاء عندما تم تسريح 81 قاضيا من قبل رئاسة مجلس الوزراء دون مستند دستوري أو قانوني ؟ وما الذي يعنيه " تسريح 81 قاضيا " دون أن يكون لهم مجرد الحق بالاعتراض !!
وبالعودة إلى جذور القضية نجد انه قد صدر المرسومين رقم 95 والمرسوم 423 / 2005 حيث قضى المرسوم 95 بتسريح 81 قاضيا بينما حجب المرسوم 423 حق الطعن أو المراجعة عن القضاة المسرحين
إن سيادة القانون هي ضرورة لازمة لتطور المجتمعات ذلك أن تطور المجتمع مرهون باحترام الجميع للقانون الذي يكفل العدالة لجميع الأفراد بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى من هنا يجب تحصين عمل السلطة القضائية باعتبارها الأداة الفاعلة التي تسهم في الحفاظ على هيبة واستقرار القوانين بما فيه خير جميع الأفراد على حد سواء .
لقد أكد الدستور السوري في المادة الثامنة والعشرون منه على القواعد الأساسية التي تكفل حقوق المواطن ومنع التعرض له بدون وجه حق وكفلت له حق التقاضي والمعاملة الحسنة حيث جاء في المادة المذكورة:
1- كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم.
2- لا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقاً للقانون.
3- لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك.
4 - حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون. فأين مبدأ كل متهم بريء حتى تثبت إدانته من هكذا تسريح وأين حقوق الطعن والدفاع أمام القضاء التي صانها الدستور السوري عندما يتم تسريح 81 قاضيا دون أن يكون لهم حق الاعتراض !! أنا لست هنا لأدافع عن الفاسد فيهم لأننا جميعا ضحية ذلك الفساد الذي نهش في جسد الوطن واكل لحمنا وهشم عظمنا بل إنني أطالب بإعمال النصوص القانونية والدستورية التي تكفل محاكمة المسيء ونيله القصاص العادل على إساءته وإنصاف المحسن والبريء ورفع الضيم عنه من خلال النصوص القانونية والدستورية وإلا كيف نقبل أن يتم تسريح هكذا عدد من القضاة دون إعمال النصوص القانونية والدستورية بحقهم ؟ وهل ندع الفاسد منهم على فرض وجوده يذهب بالذي جمعه دون قصاص !وبالعودة إلى الدستور نجد أن المادة التاسعة والعشرون منه نصت على : " لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني " فأين تم النص على مثل هذه العقوبة في القانون ؟ إن الطريقة التي صدر بها المرسوم 95 / 2005 أتت مشابهة للمرسوم التشريعي رقم (40)تاريخ 29-5-1966 المتضمن تخويل مجلس الوزراء صرف القضاة أو نقلهم إلى ملاك آخر كما لا يشترط في هذا القرار أن يكون معللا أو أن يتضمن الأسباب التي دعت للصرف من الخدمة أو النقل ، ولكن لا بد هنا من إبراز ملاحظة جوهرية أنه في ذلك الوقت لم يكن هنالك دستور في البلاد ؟ وأن الأمر هنا بات مختلفا لوجود الدستور الحالي الذي ينظم الحقوق والواجبات ؟
إن استقلال القضاء وعدم تبعيته لأي سلطة أخرى هو شرط ضروري لتحقيق العدالة ومما لا شك فيه أن تحقيق العدالة يؤدي للاستقرار السياسي والقانوني ولكن هذين المرسومين صدرا بصورة مخالفة لأبسط القواعد الدستورية والقضائية كما أنه يشكل خرقا واضحا لمبدأ فصل السلطات فأي حق ذلك الذي يعطي مجلس الوزراء ولأسباب يعود تقديرها له صرف القضاة من الخدمة أي أننا وضعنا السلطة القضائية برمتها أمام رحمة السلطة التنفيذية " وتقديراتها " بما يشكل مخالفة واضحة للمادة 28 من الدستور التي نوهنا إليها سابقا !! كما يشكل هذا المرسوم مخالفة للمواد 131 – 132 – 136 من الدستور وبناء عليه نستنتج أن لا صلاحية لمجلس الوزراء بأي صفة كانت أن يصدر مثل هذا القرارات ..
إن قانون السلطة القضائية رسم بدقة طرق تعيين القضاة وعزلهم وترفيعهم وتأديبهم وكيفية ملاحقتهم جزائيا ووفق أصول معينة أتت على سبيل الحصر ولا يجوز القفز فوقها أو إجتراح أساليب وطرق جديدة حيث نصت المادة 114 من قانون السلطة القضائية على " في الجرائم التي يرتكبها القضاة أثناء قيامهم بالوظيفة أو خارجها لا تقام دعوى الحق العام إلا من قبل النائب العام إما بإذن من لجنة تؤلف من رئيس محكمة النقض واثنين من أقدم مستشاريها أو بناءً على طلب مجلس القضاء الأعلى عندما يتبين أثناء المحاكمة المسلكية وجود جرم " ومن هنا نسأل أولو الأمر أين مجلس القضاء الأعلى من هكذا مرسومين مسّا بطريقة مباشرة بصلاحياته التي كفلها القانون له ّ !
لقد أكد قانون السلطة القضائية على حصانة القضاة فجاء في المادة 92 من السلطة القضائية على : " 1 ـ الحصانة هي صيانة القضاة من العزل والنقل ويتمتع بها جميع القضاة. 2 ـ العزل المقصود بهذه المادة هو الصرف من الخدمة " فأين الحصانة القضائية في المرسومين المذكورين !
أما المادة 105 من قانون السلطة القضائية فقد حددت العقوبات المسلكية التي يكمن فرضها على القاضي وحددتها كالتالي " اللوم - قطع الراتب – تأخير الترفيع – العزل " فأين النص على عقوبة التسريح ! أما الجهة المخولة فرض تلك العقوبات فلقد حددتها المادة 107 من قانون السلطة القضائية بمجلس القضاء الأعلى، حيث يحالون عليه بمرسوم يصدر بناءً على اقتراح وزير العدل أو رئيس مجلس القضاء الأعلى و لا ينشر في الجريدة الرسمية " وهنا خصوصا عندما وعندما نجد أن هكذا مرسوم لا يصدر في الجريدة الرسمية نلاحظ حرص المشرع وإدراكه لخصوصية وحساسية السلطة القضائية وعدم جواز النيل من هيبتها فأين مجلس القضاء الأعلى من صرف القضاة الذي حصل من قبل رئاسة مجلس الوزراء وطبلت الدنيا ووسائل الإعلام فيه وبات حديث جميع الناس فماذا سنقول لأسرة القاضي الذي قد تثبت برائته إذا تم إعادة النظر في هذين المرسومين ؟ هل تكفي كلمة عفوا ؟ هل هذا هو القضاء الذي نسعى إلى حمايته وصونه ؟ وهل يستقيم ذلك مع تسريح 81 قاضيا دفعة واحدة ؟ .
إننا الآن على عتبة أهم المراحل الإصلاحية التي تتطلب منا الصدق مع أنفسنا ومع وطننا للنهوض بالوطن والمساهمة معا في تعزيز بنائه وتوطيد أسس العدالة فيه لذلك فإنني أدعو ومن باب الحرص إلى إعادة النظر بالمرسومين المذكورين الأمر الذي سيعزز عمل القضاء وإزالة جميع العوائق التي يمكن أن تقف حائلا دون قيام القضاء بواجباته على الوجه الذي حدده القانون .
المحامي لؤي اسماعيل