أقر وأعترف أن الصحافة لم تكن يوماً صوتي الأقوى ولا عشقي الأول في الحياة، إلا أنني لذت بها باكراً، عندما اكتشفت في صدر الشباب، أن الأدب، لا يقدم للكاتب دخلاً مستقراً يحفظ كرامته ويضمن لقمة عياله، فقول أجدادنا القدماء: «أدركته حرفة الأدب فافتقر» كان ولا يزال صحيحاً، إذ حتى عبقري الرواية نجيب محفوظ عاش حياته موظفاً في جريدة الأهرام.
على الرغم من هذا، سبق لي أن أعربت مراراً، عن امتناني للصحافة لأنها بأجنحتها مكنتني من الطيران إلى أربع جهات العالم، ومن خلال حروفها تمكنت من الوصول للناس وإيصال أصوات المستضعفين والدفاع عن قضاياهم النبيلة الخاسرة.
صحيح أن متاعب الصحافة لم توفرني في كثير من الأحيان، إذ لامس حدها أحياناً حبل الوريد، أو كاد، إلا أنني لم أشعر يوماً أن الكتابة تشكل عبئاً عليَّ كما الآن! فأي كلمة تكتب أو تقال في هذه الأيام قد تجد من يفسرها بنقيضها والأعجب من ذلك أن التصنيفات والألقاب جاهزة وقاطعة كأكثر سكاكين القصابين حدة!
منذ مدة سألني أحد القراء: «أين حرارة كلماتك؟» فأجبته: « من الجنون أيها الصديق أن نشعل التدفئة في آب اللهاب».
أعترف أن الرسائل التي تصلني من الأصدقاء باتت تخيفني، فهي تنسكب على رأسي تباعاً؛ طاسة باردة، طاسة ساخنة، كما في غسل الموتى! وأنا لست بميت!
قبل ساعات من كتابة هذه الكلمات وصلتني رسالة من الصديق رشاد كامل يصفني فيها بأنني «أخ... لكل السوريين» والحق أن هذه الكلمات اللطيفة التي أثق بصدق قائلها، جعلت البحر يقفز من عيني، لأنني قبلها بساعات كنت قد تلقيت رسالة من (مثقف) عراقي يعيش في أوروبا فيها من السم ما يكفي لقتل قطيع كامل من الفيلة!
العجب العجاب هو أن هذا (المثقف) كان قد راهن على وعود إرساء الديمقراطية في العراق التي طبل لها الأميركان وعملاؤهم طويلاً، بل إنه عمل مع سلطات الاحتلال، ثم استقال وعاد إلى أوروبا، وقد قيم تلك التجربة بقوله: «أولاً شعرت بأننا نتحول تدريجياً من كوننا دعاة ديمقراطية يعملون مع من هم مفترض أنهم حلفاء ديمقراطيون لبناء دولة ديمقراطية في العراق، إلى عملاء يتعاملون مع سلطة احتلال لا أكثر ولا أقل».
العجيب هو أن هذا (المثقف) رغم مرارة تجربته مع الأميركان، يسمح لنفسه بأن يوجه لي أقذع الشتائم لأنني لا أقف مع من يطالبون بتكرار سيناريو العراق في سورية! كتبت له أقول: «هل تريد مني أن أصب الزيت على النار وأن أساهم في دفع الأمور كي يتجه بلدي إلى واحد من جحيمين؛ جحيم الحرب الأهلية والتقسيم، أو جحيم الاحتلال الأجنبي الذي رأينا «حريته وديمقراطيته» في بلدك العراق وقد أنتجت بمساعدة العباقرة من أمثالك مليون شهيد وثلاثة ملايين أرملة وأربعة ملايين يتيم وسبعة ملايين لاجئ!».
مؤخراً، طالبني عدد من القراء أن أعبر بوضوح عن موقفي مما يجري ولهؤلاء أقول: أنا لست قاضياً، لكنني رغم ذلك أدين كل من يسفك قطرة دم سورية ظلماً وعدواناً، كما أدين كل المدنيين الذين يستخدمون السلاح بغض النظر عن مواقعهم ومواقفهم!
كذلك، أعلن أنني أؤمن عميقاً في قلبي أن من يخفي الحقيقة عن نفسه يصبح أكذوبة فاقعة، وأنه في الصراعات الكبرى ليس من طرف يستطيع احتكار الصواب، إذ لا يدعي احتكار الصواب إلا من فقد الصواب.
أحسب أن أوجب واجبات الكاتب في هذه المرحلة هي أن يتمسك بصحو عقله كي لا يتشظى ويطير شعاعاً، وأن يحرص على وحدة نفسه كي لا تنفصم وتصير نفوساً، وأن يتمسك بأنفاسه كي لا تنقطع.
في بدء الأحداث قلت في رسالة لأحد الأصدقاء «...هاأنذا أعلن مجدداً أنني أريد الحرية والكرامة لسورية وشعبها وأنا بضعة منه، لكنني مستعد لأن أقذف بأي شيء من شأنه أن يفتت سورية إلى الجحيم، بما في ذلك كرامتي وحريتي وحياتي أيضاً».
نعم، أنا أريد كل الأشياء الجديدة الجيدة لسورية، شريطة أن أحتفظ بالأشياء القديمة الجيدة أيضاً، كي لا يصير معنا مثل ذلك الشخص الساذج الذي أعمته رغبته في الحصول على دواليب جديدة لسيارته، عن الشروط المجحفة الواردة في العقد، ليكتشف تالياً أن سلوكه الأرعن أباح للطرف الآخر أن يصادر سيارته القديمة ثمناً لدواليبها الجديدة!
*منقول *
11/09/2011
حسن م يوسف
(مقالة للكاتب حسن م يوسف في صحيفة الوطن اون لاين رائعة المعاني اتمنى ان تنال اعجاب قراء سيريا نيوز )