إنَّ حـــــزناً في ساعةِ المــــوتِ أضعـــا
فســـرور فـــي ساعة الميـــــــــلاد
ونحن نُعِدُّ صفحة عن الذكرى الخامسة لرحيل الهرم الرابع لتاريخ الرواية العربية وأحد أهم مؤسسيها، أفزعنا نبأ رحيل الكاتب الروائي خيري الشلبي الذي ألف أكثر من مئة كتاب نُشر سبعون منها، بين رواية ومسرحية ودراسة نقدية.. هذا الكاتب الذي ظلمه النقاد العرب، وخاصة منهم ذوي الميول اليسارية، مع أنه يعدّ جسراً بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس من وجهة العلاقة مع الحياة المصرية وأحلام أبناء الطبقة الوسطى وهواجسهم. وقد تميز خيري الشلبي في أعماله بتناول الهموم والمشاكل التي يعانيها المغمورون والمهمشون والمقصيون وسكان المقابر.
اعتمد شلبي في أعماله على الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من الموروث السردي الشعبي العربي، ووظفه في لغة سردية سهلة ومباشرة، تعبر عن هموم الناس، كما هي في الواقع، ولم يقطع صلته مع التراث، كما لم تأخذه موجات الحداثة الخارجية، وإنما زادته تمثلاً بواقعه ومهارة وقدرة على تجسيده وخلقه في أشكال فنية جديدة.
من أهم أعماله الكثيرة المتعددة والمتنوعة رواية (وكالة عطية) الذي نال عليه جائزة نجيب محفوظ. فقد استطاع من خلال هذا الكتاب أن يمسك موضوعه ويبتعد عن الاستطراد والغرق في التفاصيل.
في ندوة للرواية العربية أقيمت في دمشق أثناء احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية حضرها الراحل، قدم فيها أحد الروائيين السوريين مداخلة حول مفهوم قتل الأب في الرواية العربية، وقصد تحديداً نجيب محفوظ وحنا مينه، فما كان من خيري شلبي إلا أن وقف محتجاً بحضور وقور، وترفَّع عندما سمع من المتداخل أن أعمال نجيب محفوظ الأخيرة لا تستحق القراءة. وقف قائلاً بالعامية المصرية (لحد هون.. كفا)، ثم خرج من القاعة في حركة احتجاجية معبرة، لهامة مجللة بالثلج.
خيري شلبي الآن في حضرة الغياب مع نجيب محفوظ الذي نعدّ ملفاً عنه، وكي لا نظلم الراحل في موته كما ظلم في حياته ربما سنفرد له يوماً ما ملفاً خاصاً به وبإنتاجه. وعزاؤنا أن الكثيرين من كتاب الرواية العربية ظُلموا لأنهم عاشوا في زمن نجيب محفوظ وتحت وهج قامته العملاقة.
لا يمكن الحديث عن الرواية العربية نشأة وتطوراً، تحديثاً وتأصيلاً دون المرور بالتجربة المحفوظية، حتى لكأن تاريخ الرواية العربية قد وجد تجسيداً له متناغماً مع تجربة محفوظ السردية، التي لا يمكن أن ينظر إليها من حيث الكم وعدد المؤلفات، وإنما من حيث الكيف والعمق والتنوع والاختلاف والشخصيات والإنجاز الفني. خلاصة تجربة محفوظ بعيداً عن التصنيف المدرسي المرحلة التاريخية، المرحلة الواقعية الطبيعية، الواقعية النقدية (الجديدة)، المرحلة الذهنية (أو الفلسفية)، المرحلة التعبيرية (الرمزية)، هذه المراحل تقسيمات للدراسة، وهي في الواقع يتناسل بعضها من الآخر، ويتعالق به، فيها اتصال وانفصال، وتواشج وتميز، حتى لنجد في العمل الواحد المراحل جميعها. فأولاد حارتنا الرمزية، الإنسانية، العامة، لا يمكن فصلها مثلاً عن اللص والكلاب، السُّمَّان والخريف، الطريق، الشحاذ وغيرها. خلاصة تلك التجربة وأهم الدروس المستفادة منها والتي يمكن تعميمها اختصاراً يخل بحجمها وعمقها يكمن في
أولاً انفتاح الكاتب على تجارب الرواية العالمية، وانتماؤه إلى تاريخ الجنس الروائي، هذا الانتماء لم يحل دون التصاقه الشديد بواقعه المصري (الحارة المصرية) ليقول لنا إن أقصر الطرق إلى العالمية هو الإغراق في المحلية والاستفادة من الموروث السردي المحلي بعد تحريره من بلاغته القديمة وعوالقه الخارجية.
ثانياً التجريب الدائم والمستمر، وعدم التوقف عند شكل أو مذهب أو مدرسة محددة، بمعنى آخر عدم الركون إلى مرجعية ثابتة، لقد كان الكاتب يتجاوز ذاته بشكل مستمر، مجارياً متغيرات الواقع، وتطور الأشكال. هذا لا يعني أنه في كل عمل قد تجاوز سابقيه، فثمة أعمال لا ترقى إلى مستوى سابقيها (الكرنك، ميرامار) ولكن خط تطور محفوظ العام كان صاعداً.
ثالثاً التأثير الواضح في الآخرين، فمن الصعب أن نجد روائياً عربياً لم يتأثر بهذا الشكل أو ذاك بالتجربة المحفوظية شكلاً ومضموناً.
رابعاً في إنتاج محفوظ الغزير تجسدت أهم إشكاليات الرواية كجنس أدبي، العلاقة بين الرواية والتاريخ، الرواية والواقع، الرواية والفلسفة، الرواية والرمز، ثم إشكاليات الشكل الروائي وعلاقته بالبنى الخارجية والأنساق المعرفية.
خامساً امتلاك الكاتب الصدق الفني بتخلصه من هيمنته على أبطاله، وإطلاق حرية التشكل لهم وفق ظروفهم وشبكة علاقاتهم الروائية. وعدم تحويلهم إلى بوق يردد أصداء المؤلف، مع قدرة على الاستفادة من العنصر السيري في كثير من أعماله.
سادساً النزعة التاريخية والعمق الفلسفي والثقافة الواسعة، ساعدت على تشكيل مفهوم ورؤية للعالم صدر عنه في تحليله لمادته السردية (أمين سر التاريخ المصري) وكاتب الطبقة الوسطى، ومجسد رؤيتها بكل تناقضاتها وتطلعاتها بهمومها وأحلامها ومستقبلها.
وأخيراً إن حصول الأديب الكبير على جائزة نوبل للآداب عام 1988 ليس مصادفة، على ما حول هذه الجائزة من لغط، وما أثير حول حصول محفوظ عليها. إلا أنها تبقى في المعيار الأخير أهم جائزة في العالم، والمحفوظ الكاتب العربي الأول والوحيد حتى الآن الذي حصل عليها، هذه الجائزة لم توصل الكاتب إلى العالمية، فقد وصل إليها بفعل إنتاجه ومكانته في تاريخ الرواية العربية والعالمية، وحصوله عليها لم يكن بسبب روايته (أولاد حارتنا) التي ليست من وجهة النظر الفنية أهم عمل له، فقيمتها المضافة خارج نصية حصوله على الجائزة بمجمل إنتاجه، فهو صاحب أكبر وأعمق مدونة سردية في تاريخ الرواية العربية، وأحد أعمدة الرواية العالمية، والذي قال منذ أكثر من ثمانين عاماً في رده على العقاد حول الشعر ومكانته القصة هي شعر الدنيا الحديثة. وأسس بذلك لمن قال الرواية ديوان العرب، وزمن الرواية.
من له كل هذه المآثر، وكل تلك الامتدادات انتشاراً وعمقاً لم يمت، إنه أكثر الأحياء حياة.
ملاحظة ولد نجيب محفوظ في 11 كانون الأول عام 1911 في مدينة القاهرة، وحمل اسم الطبيب القبطي الذي أشرف على ولادته حسب رغبة أبيه، وفاء لذلك الطبيب. وتوفي في القاهرة في 30-8-2006