تؤكد الأحداث الجارية حالياً في العالم العربي أن شعوب هذه المنطقة ومنها سورية، تسعى لاكتساب الديمقراطية وترسيخها في مجتمعاتها. ليس أية ديمقراطية، وإنما تلك الديمقراطية ذات المحتوى التحرري والاجتماعي، وجعلها إحدى أهم مكتسباتها ووسائلها للتحكم بمستقبلها، وبنائها على النحو الذي يحقق مصالحها.
وليس هذا بجديد على شعبنا في سورية، فلم يكن النضال ضد الديكتاتوريات والأحلاف الاستعمارية، وللفوز بالديمقراطية والتقدم الاجتماعي، غائبين عن أذهان وممارسات جماهيرنا الوطنية، ولا عن برامج القوى التقدمية والمنظمات الشعبية منذ الفوز بالاستقلال.
وبدافع من المصالح التي تدعيها الإمبريالية في المنطقة، تتابع هي الأخرى الأحداث الجارية فيها، وتسميها بالصحوة، وتسعى للتأثير في مجراها ونتائجها، وإخضاعها لخطط عولمتها، باتجاهين اثنين
أولهما السعي بالإكراه والإغراء، لفرض الانفتاح والاندماج، باتجاه احتكاراتها ومؤسساتها الدولية، وخلق الأوليغارشية التي تصلح كقاعدة اجتماعية للتطور الذي يلائمها.
وثانيهما إشغال هذه البلدان بصراعات مذهبية وأصولية تغرقها في التخلف والفوضى، وإبعاد الشعوب عن إصلاحات تعزز استقلالها، وتهيئ لتنمية متوازنة، وحراك اجتماعي حضاري، ونضال مطلبي عادل، واستكمال بناء الدولة الحديثة التمثيلية والمجتمع المدني.
ومع اتضاح معالم السياسة الإمبريالية الصهيونية تجاه المنطقة منذ التسعينيات المنصرمة لفرض مفهومها عن الشرق الأوسط الجديد بالقوة على شعوب المنطقة، اشتدت في سورية المطالبة بإصلاحات تعزز الموقف الوطني، وذلك باتجاهين، أولهما البدء بإصلاحات تعزز الوضع الداخلي، سياسياً، وتكرس التعددية بمحتواها الديمقراطي، وبوصفها سمة التنمية الاقتصادية الاجتماعية، لمرحلة كاملة مقبلة. وأقرت في عام 2005 إبان انعقاد المؤتمر العاشر لحزب البعث، مجموعة من الإصلاحات السياسية، التي خلقت بعض الارتياح الشعبي، مع الأمل أن تنفذ بدقة، وأن تدعم البنية الاقتصادية الاجتماعية التي كانت تحتفظ في حينه بالعديد من الملامح التقدمية. وبدء فعلاً بمحاولات لإصلاح القطاع العام والإدارة الحكومية، ومكافحة الفساد وغيره من التجاوزات الضارة بالمجتمع. إلا أن ذلك تعثر وسُوّف بحجج مختلفة وغير مقنعة.
وثانيهما مع أن سورية أخذت بالليبرالية الجديدة متأخرة ومترددة، وبممانعة شعبية جدية، إلا أنها لم تحل دون سيطرتها شبه التامة على الاقتصاد الوطني، وتعدِّيها على المكتسبات الاجتماعية لعامة الجماهير. فتبدلت موازين القوى، ونمت القاعدة المادية لليبرالية، والفئة الحاملة للنهج الملائم لها. وهي تريد الآن فرض الإصلاحات التي تحمل ملامحها، وتكرس صيغة للتطور الرأسمالي، يكون انفتاحياً وتابعاً، وبالتالي معادياً للديمقراطية، فيؤدي لا محالة إلى المزيد من التباعد بين السلطة والجماهير، وإلى تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء.
ولكن يبدو نادراً في التاريخ، إن حصلت إصلاحات جدية في أي من أوجه الحياة السياسية والاجتماعية، دون أن تفرضها أزمات بمستواها. إنها حل قسري لتناقض مستعصٍ، لذا فكل الاضطرابات الداخلية والضغوط الخارجية، التي تتعرض لها بلادنا حالياً، إنما تنم عن أنها في أزمة حادة وخطيرة، كشفت كل عيوب التخلف في الدولة والمجتمع، ودفعت إلى سطح الأحداث، كل المظالم والتناقضات، وأدت إلى حراك نشيط ونضال مطلبي فعَّال، وتنوع في مواقف القوى التي يبدو أن معالمها السياسية والطبقية لن تتضح قبل أن تنتظم في أحزاب علنية، ببرامج ملزمة وملتزمة بالوطن.
لا شك في أن الأزمة الراهنة التي تعانيها سورية، تختلف بأسبابها وأهدافها، وكذلك بالقوى الفاعلة في معالجتها، أو تسعيرها، عما يجري في العديد من البلدان العربية الأخرى. هنا أزمة ترجع بأسبابها الرئيسة إلى تراكم عوامل داخلية ذات طابع سياسي واجتماعي، نشأت عن تناقض محتد بين أسلوب ممارسة الإدارة والحكم، وبين ما يتطلبه التطور الجاري في البلاد، في مجال الديمقراطية على وجه خاص. وليس من المستغرب أن تستغل القوى المعادية هذه التناقضات، وتسعى لضرب السياسة الوطنية التي تنتهجها البلاد، وإفساد الحراك المطلبي للجماهير الكادحة.
وبالنظر إلى التصعيد الخطير الذي تمارسه العصابات المسلحة، إحدى أخطر أدوات القوى الرجعية والسلفية، والتهجم الدعائي الظالم، وكذلك التمادي في فرض المقاطعات والضغوط والتهديد باستعمال القوة الإمبريالية.. بالنظر إلى كل ذلك، وبشعور عال بالمسؤولية، اندفعت كل القوى الوطنية والتقدمية في البلاد، وبضمن ذلك حزبنا الشيوعي، للمطالبة بإلحاح بإصلاحات جذرية عاجلة وفعالة، في المجالين السياسي والاقتصادي ووضع حد للنشاطات المعادية، أو المعرقلة للإصلاحات، والبدء بحوار يشمل كل القوى الحريصة على مصالح البلاد بغية تعزيز الوحدة الوطنية، والدفاع عن الوطن.
وبالفعل صدرت جملة من القوانين التي من أهمها تغيير الحكومة، وإلغاء حالة الطوارئ، وتنظيم الانتخابات المحلية، ومجلس الشعب، وتشكيل الأحزاب وقانون الصحافة، إضافة إلى بعض التدابير الأخرى التي تمس مصالح عامة الناس. ومن المقرر أن تستمر هذه الإصلاحات، وتتناول تعديل دستور البلاد، وأن تمضي بعد ذلك قدماً، وفقاً لدينامية التطور الاجتماعي والسياسي. ومن المأمول أن تؤدي هذه الإصلاحات إلى توازن في موازين القوى السياسية في البلاد، يضمن تنفيذ الإصلاحات بدقة ويحول دون وقوعها ضحية بيروقراطيات ضيقة الأفق، أو بالانحياز إلى قوى الرأسمال المتجبرة، وليس للعدالة.
وعلى الرغم من كل الأهمية التي تتحملها هذه الإصلاحات، فهي بتقديرنا لا تشمل كل ما يتطلبه التطور الحاصل أو المرتقب للبلاد. لقد أفسدت الليبرالية مفاهيم ومواقف عديدة في أوساط شعبنا، كما غزتها اتجاهات ظلامية تشل قواها الحية، أخطرها التصارع الطائفي، وإحلال التنابذ محل الوحدة والتلاحم، وطمس التضامن الشعبي لصالح التسابق إلى الانتهاز والمكاسب، والابتعاد عن الشأن العام، والظاهرتان تختلفان في الشكل وتتفقان في الهدف.
ومع أن المرأة تشكل نصف المجتمع، وهناك من يؤكد أن موقعها وحقوقها تشكل ثلاثة أرباع أية حضارة، مع ذلك بدلاً من أن تخف المظالم والنواقص التي تعانيها، فهي تزداد وتتفاقم.
والأمر نفسه يصح إلى حد بعيد، بالنسبة إلى الشباب الذين يقال عنهم إنهم بثقافتهم واتجاهات تطورهم يتعلق مستقبل البلاد نرى قسماً منهم يذهب ضحية مهاوٍ مظلمة ومآسٍ اجتماعية.
إن الإصلاح والحالة هذه ليس مسؤولية نظام أو سلطة، على أهمية دورهما الكبير، ولا هو موضوع حملة وحل لمشكلة مؤقتة. إنه بالأحرى والأجدر مهمة مجتمع ينفض عنه غبار ورواسب مرحلة تاريخية ترجع ببقاياها إلى الإقطاعية والعهود الاستعمارية وتدابير تقنين للحريات العامة والديمقراطية. لذا فإن من شأن الأخذ بإصلاحات على هذا المستوى، وبهذا الاتساع، أن يغير الكثير مما في سورية، ويجعلها غداً أفضل وآمن من البارحة. ونحن على يقين أن بلادنا تمتلك من المقومات التي تجعلها تتخطى هذه الأزمة، وكذلك النماذج التي يروج لها ويراد الاقتداء بها، كالنموذج التركي أو الإيراني وما شابهها. والانطلاق من الثقة بالنفس واليقين أن ما تدخره بلادنا من إرث وطني وعلماني يؤهلانها لتبوؤ الموقع الطليعي في العالم العربي، المبني أساساً على القناعة بتلازم الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، شرطاً بناء مجتمع عادل وغني.
ولا يخفى أن كل ما يتم من إصلاحات، إنما تقوم بها سلطة وطنية معادية للاستعمار والصهيونية، وتدعم قوى المقاومة، وتعمل كل ما بوسعها لتحرير الجولان، والحفاظ على حرية القرار الوطني. وهي بذلك تواصل المسار الذي اتبعته سورية طوال تاريخها الحديث، وتعزز مواقعها في المجتمع، وتقوم بإصلاح نفسها على التوازي. ومن أهم ما يساعد على ذلك، التخلي عن حكم الحزب الواحد، فتحل الديمقراطية داخله وفي المجتمع. فالجدل والتباري بين الأحزاب من أهم سمات المجتمعات النشيطة وضمان تغلبها على التناقضات التي لا يخلو منها أي مجتمع طبقي ناهض بتكوين متعدد ومعقد كالمجتمع السوري.
ومن المؤكد أن القوى الرجعية والإمبريالية ستستمر في ضغوطها وعدوانيتها، وستصعدها، كلما تقدمنا في الإصلاحات، وعلى هذا النحو ندخل في تسابق، فوزنا فيه متعلق بمدى نفاذ نتائج الإصلاحات إلى قلوب الجماهير وقناعاتهم، إلى تراص الوحدة الوطنية.
إنهم يركزون هجماتهم على النظام، بهدف تحقيق خطط تدميرية تتجاوزهما. هذا ما نراه يمارس في بلدان عربية أخرى، لذا فمن واجب كل القوى الوطنية والتقدمية في البلاد التعاون والعمل لإفشالها.
ولا ينكر أن هذه الأزمة وما رافقها من ضغوط وفوضى، أسفرت عن خسائر بشرية تحزن الجميع، وعن مضاعفات وخسائر مادية كبيرة.
بالمقابل نلاحظ الجهود التي ترمي لتأمين الضرورات المعيشية ومواصلة دعم بعض المواد، ومتابعة الخدمات الأساسية بشكل مقبول في معظم مناطق البلاد. إلا أن المكابرة وإنكار الصعوبات والخسائر، أمور لا تجدي في مثل هذه الظروف. من الأفضل مصارحة الناس بحقيقة الوقائع، ثقة بهم، واحتراماً لوعيهم.
إن من شأن ذلك أن يرفع من مستوى تحملهم لأعباء المواجهة. ومن الهام في هذا الصدد ممارسة التواضع وتقديم القدوة من قبل المسؤولين، والحد من التجاوزات للقوانين وكل أشكال التعالي والتعدي على الحقوق والكرامات، وإعطاء أهمية خاصة لإصلاح القضاء، وفصل السلطات.
وبالتوازي مع كل ذلك، وفي إطار الإصلاحات الملحة والجذرية تتوجب مراجعة السياسات والإجراءات التي اتبعت في السنوات المنصرمة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، بتأثير الانفتاح المفرط والاندماج المتعجل، والتكيف مع شروط المؤسسات الدولية المشبوهة، بما تجاوز قدرة البلاد الفعلية، وحاجاتها الإنمائية والمعيشية، وحولها إلى محرض أساسي للأزمة الحالية.
إن تصحيح الوضع الاقتصادي والمالي، ودفع أقصى الجهود باتجاه تحسين ظروف عمل وحياة الكادحين، بات من أهم القضايا الأمنية ومقومات تجاوز الأزمة.
فما زلنا نلاحظ أن الليبرالية التي فازت بالأوَّلية لعدد من السنين لا تزال تمضي في فرض شروطها ونهبها على الدولة والشعب. فمن حق المواطنين والحالة هذه أن يقيِّموا كل تدبير حكومي يتخذ الآن فيما إذا كان امتداداً لما سبق وأدين من تدابير، أم فيه مما ينسجم مع قول السيد رئيس الجمهورية بأننا بحاجة إلى نهج اقتصادي جديد. وهنا يثار التساؤل لماذا لم تعلن الحكومة الحالية حتى الآن بيانها، وتصوغ برنامجها، وتدخل في جدل ومكاشفة مع مختلف المنظمات والفئات الشعبية؟ أليس معروفاً أنه لم تولد بعد الحكومة التي هي أذكى من شعبها وأقدر منه على تقدير ما يريده وما يقدر عليه؟
في خُزُن الحكومة يقبع مشروع الخطة الخمسية الحادية عشرة، التي صيغت لتكمل مسار العاشرة التي اعتُرف بفشلها، وفي خُزُنها أيضاً الكثير من الدراسات والاقتراحات الجدية، التي ترمي إلى إصلاح الاقتصاد والقطاع العام بما يخفف عنهما النهب والإهمال، وتدعم الصناعة والزراعة والخدمات الشعبية، بأفعال ملموسة لا بشعارات وتمنيات طيبة وحسب. وفيها الكثير من الآراء التي من شأنها أن تحسن ظروف وعمل الجماهير الكادحة وتخفف من ا لغلاء والبطالة والفقر والفساد.
وبودنا أن تولى أهمية خاصة للعجوز المالية، وعجوز التجارة الخارجية، لأنها تمس بشكل مباشر عملية الصمود في وضع متأزم، لنحمي الاقتصاد من الغزو والإغراق الخارجي.
لنعدْ النظر في المستوردات الكمالية، قبل أن نجهد أنفسنا في تصدير أهم مواد المعيشة مقابلها، كالغنم والحبوب والنفط. ولا بد من إعادة النظر بالإعفاءات وتخفيضات الرسوم الجمركية، وربطها بشكل مباشر بالتوظيفات في الصناعة والزراعة والخدمات الشعبية. إن التهرب ا لضريبي وما يرافقه من مفاسد أمر لا تقبل به أية دولة حريصة على تنفيذ مهامها، وكذلك التراخي في مراقبة المصارف والحد من تهريب الرساميل والخبرات.
لتعلن الأوَّلية للنقل الجماعي، والسكن الشعبي، ولتحسين الأجور والمداخيل، وتطوير التعليم والخدمات الطبية، ومواصلة الدعم بأهم المواد الأساسية، وفي مقدمتها الخبز. ليكافح الهدر بالمواد الطبيعية والطاقة. صحيح أن الدولة ليست مدينة مالياً بالكثير للخارج، ولكنها مدينة بالكثير للكادحين الذين يعانون النواقص والمظالم. إن إعادة النظر بتوزيع الدخل الوطني، في صالح الاستثمار والاستهلاك الشعبي، مسألة أساسية في هذا الوقت. وهذا يتطلب إدارة وأسلوب تقييم الأوضاع وتشخيص المهام، باعتماد العلم والتشاور، واتخاذ القرارات بعيداً عن الفردية والإرادوية والمركزية المفرطة، والحس المرهف بالنتائج، وبولاء للمصلحة العامة دون غيرها.