المحور الاجتماعي والخدمي :
عند الحديث عن الجانب الخدمي يعني أننا نقصد كل ما يتعلق بالعلاقة بين مؤسسات الدولة والمواطن بالإضافة إلى ما ينتج عن هذه العلاقة من تأمين طلبات وحاجيات المواطنين في مختلف جوانب الحياة وتتعدد طبيعة الخدمات المقدمة بحسب طبيعة ومهمة كل مؤسسة .
هذه العلاقة التي يجب أن تبنى على أساس الاحترام للمواطن أولا وحقه بالحياة الكريمة ثانيا ، أي التعامل معه على أنه إنسان له حقه في الحرية والكرامة التي يجب أن تبنى على أساسها طبيعة هذه العلاقة وانطلاقا من المقولة أن الوطن الحر القوي والمنيع لا يبنيه إلا أبناءه الأحرار الذين يشعرون بالكرامة والتقدير والاهتمام في وطنهم وإلا فإن النتائج ستكون سلبية . من هذا المنطلق يمكن تصنيف أسلوب الإدارة أو الحكم ، وبالتالي القائم على ذلك ، أي الحاكم أو القائد أو الرئيس أو الملك (سميه ما شئت) إلى صنفين لا ثالث لهما :
الأول: قائد أو حاكم ، على اختلاف مستوى القيادة ، يحكم ولا يملك ، ولا أقصد المعنى المعروف من خلال النظم الإدارية والسياسية المعروفة عالميا وإنما الحالة يعبر عنها بتأثير الحاكم وسلطته على الأجسام فقط ولكن القلوب تكون بخلاف ذلك ، يكون الحاكم قد خسر تأثيره على قلوب الرعية. ومن هنا تظهر الإشكالات وتنشأ مظاهر الاحتقان والتململ في الوسط الشعبي .
الثاني : قائد أو حاكم يملك وليس معنى هذا التملك للأشياء إنما المقصود بأن، الحاكم استطاع بحنكته وخدمته لرعيته وحرصه على حقوقهم وكرامتهم وحرياتهم وسهره على أمنهم ، فهو يعيش همومهم ويشعر بآلامهم ، أي أنه لا يفصله عنهم فاصل ولا يعتمد في إدارته على ما يصله عبر الموصلين وما يشكل بالروابط بينه وبين شعبه (بصريح العبارة – التقارير التي تأتيه من هنا وهناك فقط ) بل يطلع بشخصه وبذاته على واقعهم فهو منهم – عندها فإن القائد يكون قد وصل إلى مرحلة الملك للقلوب ، وهذا أسمى أنواع الخدمة ، نعم لأن القائد بالنتيجة هو خادم لشعبه .
من هذا المنطلق يخرج الناس طواعية مندفعين بتأثير ذواتهم وقلوبهم وليس بتأثير أجسامهم ليعبروا عن آرائهم ، ولنا في تاريخنا العربي عبرة ، عندما توفي الأمير العربي الأموي عمر بن عبد العزيز بكاه الناس من أبناء شعبه وحتى من أعدائه من الروم الذين كانوا في عصره ، وأنطلق من مقولته (انثروا الحب على رؤوس الجبال حتى لا يجوع طير في عهد عمر بن العزيز) فما بالنا وقد جاع الناس في عصرنا الراهن وساءت العلاقة بين مؤسسات الدولة والمواطن وانتشرت مظاهر الفساد والرشوة والمحسوبيات واحتكار الثروة لدى فئة قليلة ، وأصبح التعامل السائد هو بين سيد ومسود وهذا هو مكمن الخطر ، علما أن ذلك لا ينحصر عند مستوى محدد من مستويات الإدارة في الدولة .
وأبدأ في استعراض الجانب الخدمي من مختلف أشكاله :
1- الجانب الأمني : إن العلاقة بين رجل الأمن والمواطن يجب أن تكون مبنية على الاحترام والتقدير فرجال الأمن منا ونحن منهم ولا أقصد التهاون مع المجرم أو المخالف للقانون إنما أريد أن تكون هذه العلاقة الخدمية مبنية على أساس القانون ومحكومة بمواده ، فما بالنا إذا ذكرت الجهة الأمنية ارتعدت فرائص المواطن وساده الرعب ، إذا لابد من إعادة النظر في تركيب الجهاز الأمني بفروعه المختلفة وتحديد مهماته وأسس تعامله وليعلم إخوتنا رجال الأمن أن لا حياة لنا بدونهم وهم يؤدون أسمى وأجل خدمة للمواطن أولا ثم للوطن إذا كانت تحت سيادة القانون.
2- الجانب المدني: ويتلخص هذا الجانب بالتأكيد على مدنية الدولة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وتعميق مفهوم المواطنة والمواطنة فقط ونفي المحسوبيات العرقية والمذهبية والعشائرية . فالمقياس الأول والأخير في صلاح الفرد هو بمقدار ما يقدمه من خدمة للوطن والمواطنين.
3- الجانب الديمقراطي: ليست هذه الكلمة مجردة نسمعها كثيرا من هنا وهناك لنصف بها أفعالا أو مؤسسات أو كيانات اجتماعية أو سياسية ، إنما يجب أن تتحول في حياتنا إلى تطبيق فعلي من خلال تعميق مفهوم قبول الرأي الآخر في جميع مناحي الحياة ابتدءاً من الأسرة وانتهاءً بأكبر كيان اجتماعي أو سياسي . من هنا لا بد من فتح نوافذ لاستقبال وسماع الرأي الآخر مهما كان ولا بد من عقد ندوات على كافة المستويات الشعبية وفي مختلف المحافظات وعلى مستوى الإعلام لنسمع آراء الناس بكل حرية تامة لنبتعد عن حالة النفاق التي ترافق حالة الخوف ، إذ لا يمكننا بالنفاق أن نبني وطنا أو نحل مشكلة مهما كانت صغيرة أو بسيطة .
4-جانب المشاركة الشعبية: تعميق مبدأ المشاركة الشعبية في معالجة الإشكاليات ومشاريع القوانين وصناعة حاضر ومستقبل الوطن في كل ما يتعلق بالوطن والمواطن وهذا أصبح ميسورا وسهلا من خلال استخدام التقنيات الحديثة والانترنيت ، فلا يمنع من أن يتم تخصيص مواقع إلكترونية على الشبكة لكل مؤسسة أو دائرة رسمية تهتم بمعرفة استطلاعات الرأي العام وضمن ضوابط محددة تمنع التزوير والاختراق بحيث تعكس الرأي العام بالشكل الصحيح ومن ثم الاستنارة بهذه الاستطلاعات في رسم المستقبل .
5- جانب حقوق الإنسان : ضرورة إحداث وزارة خاصة بحقوق الإنسان تكون مختصة بشأننا السوري لنتجنب تأثير منظمات حقوق الإنسان الأجنبية التي غالبا ما تكون في طلباتها ومعالجاتها للأمور تحمل السم في العسل وتسعى لتحقيق أهداف لا تخدم مصالحنا كمواطنين وكوطن ، يمكن للمواطن أن يلجأ لهذه الوزارة لتعالج مشاكله عندما يشعر بالهضم لحقوقه . وأضيف لا بد من تفعيل دور المجتمع المدني والنقابات وتأطيرها لتعمل لخدمة الصالح العام بشكل علني متمتعة بهامش واف من الحرية والاستقلالية.
6-جانب الخدمات الشبابية : الشباب عماد الحاضر وأمل الأمة ، فالأمة التي يعاني شبابها البطالة والفراغ الفقر والحيرة وضياع الحقوق ومظاهر الفساد والعجز عن تأمين متطلبات الحياة بمختلف أشكالها ، ابتدءاً من لقمة العيش وانتهاءا بالعجز عن تأمين السكن ، يرى أن مستقبله في خطر ومن هنا تظهر العوامل التي تطفوا على السطح بأشكال مختلفة مثل الجريمة والاحتقان الشعبي ، الذي يمكن أن يترجم إلى أشكال مختلفة لا تحمد عاقبتها .
من هذا المنطلق أقترح أن تنشأ وزارة خاصة تهتم بمطالبهم بحث يكون هدفها تحويل الشباب العاطل عن العمل إلى شباب منتج من خلال تأمين فرص العمل ليس في القطاع العام فقط بل تعمل على تشجيع المشاريع الشبابية الصغيرة وتأمين الدعم الكامل لها (مثل الصناعية والزراعية والمهنية والتجارية) بقروض ميسرة وبدون فائدة ليتمكن الشاب فيما بعد من المساهمة في الحركة الاقتصادية .
7- الجانب الخدمي المتعلق بالشيخوخة والعاجزين عن العمل والأيتام : حفظا لكرامة آبائنا وأمهاتنا والمستضعفين منا ممن بلغوا من العمر سنا لا يمكنهم من العمل وكسب لقمة العيش ، الذين قدموا لنا في السابق ، أيعقل أن ننساهم ؟؟؟ ، هؤلاء الذين ينبغي أن تطبق لهم تسن من أجلهم التشريعات الخاصة وأن يشملوا بالمعونة الاجتماعية ليس فقط من قبل الدولة وإنما من قبل الجمعيات الخيرية التي ينبغي أن تنشط بشكل ملحوظ وأن يشرف عليها الصادقون المخلصون الذين لا يرجون جزاءا ولا شكورا من الناس. وهنا أتوجه إلى السادة العلماء ووزارة الأوقاف من كل طيف سواء كانت إسلامية أو مسيحية أن تقوم بجمع ليس فقط التبرعات بل الزكوات من أجل دعم هؤلاء وإكرامهم.
8- جانب خدمات الطفولة: يعتبر الطفل من أهم المخلوقات التي تحتاج إلى رعاية خاصة تبدأ من الخدمات الصحية اللائقة والاجتماعية والحنان والغذائية الخاصة وتأمين مستلزمات الحياة الكريمة في جو اجتماعي أسري ومن هنا لا بد من الاهتمام بالأسرة لتشكل نواة أساسية وفعالة في المجتمع ولتكون الثمار الناتجة عنها زادا طيبا للوطن ، وهذا يفرض حقوقا للأسرة يجب أخذها بالاعتبار عند سن القوانين ووضع الدساتير .
9- الخدمات التعليمية: بعد بلوغ الطفل مرحلة من العمر تبدأ معه مرحلة التعليم الأساسي ، والتي تمتد عمليا ، وكما هو معروف حتى نهاية المرحلة الإعدادية. خلال تلك الفترة الزمنية ومن خلال التجربة برزت حالات عزوف بعض التلاميذ عن متابعة الدراسة ، وبحكم القرار المتخذ بإلزامية التعليم كان يتم إجبارهم على الدوام في المدرسة ، مما كان يسبب إحراجا كبيرا للمعلمين وذلك لأن مثل هذا النوع من التلاميذ يشكلون مصدر شغب . والسؤال المطروح لماذا لا يكون التعليم لمن يرغب بالتعليم فعلا ؟ ولماذا لا يحول مثل هذا النوع من التلاميذ إلى مجالات أخرى مهنية مثلا أو صناعية بحيث يمكن أن يرى ذاته فيها وبالتالي يصفوا الجو الدراسي في قاعات الصف من جهة ويستفيد الطالب من تعلمه للمهنة أو للحرفة فيكون منتجا . أي أنه يجب الانتباه إلى ميول التلاميذ منذ نهاية المرحلة الابتدائية وقد يكون هذا ممكنا في معظم الأحيان مع العلم أن المجتمع لا يحتاج للمعلمين أو المهندسين أو الأطباء أو... فقط وإنما يحتاج وبشكل ملح للمهن والصناعات والحرف والمشاريع الاقتصادية الصغيرة .
إن الوصول إلى مثل هذه الخيارات يحتاج قبل كل شيء إلى الإصغاء للتلاميذ والحوار معهم وسماع آرائهم بحرية وبالتالي تحديد رغباتهم ...إذا لا بد من تعميق مفهوم الرأي والرأي الآخر ، وتعميق مفهوم الديمقراطية في أذهان التلاميذ منذ الصغر والجانب الآخر تعميق مفهوم المواطنة وزرعها في نفوس التلاميذ لتصبح ثقافة عامة لدى الجميع .
إن معرفة ميول التلميذ منذ نعومة أظفاره يمكن الاستفادة منه لإنشاء جيل علمي ، بل واختصاصين من خلال التركيز على المقررات التي يميل إليها الطالب ومن ثم يمكنه متابعة التحصيل العلمي فيما يتناسب مع رغبته ليصل بالنتيجة إلى مرحلة الاختصاصي الخبير .
في خضم ذلك لا بد من أن لا ننسى دور المعلم والعمل على إكرامه وتقديره وكفايته ماديا ليتفرغ من أجل مهنته السامية ووضعه في مكانه الطبيعي الفطري ليشعر أنه مكرم ومحترم رسميا وشعبيا ، لا أن يتم الاستهزاء به ورشقه بالحجارة كما حصل ويحصل للأسف .
10- التعليم العالي: عندما ننظر إلى الجامعات الغربية أو الشرقية لا نرى فيها قالبا واحدا وبالتالي توجد فيها تعددية هذا من الناحية السياسية فليس من الضروري أن يكون لدينا اتحاد الطلبة من نوع واحد إنما يجب أن يطبق إطار الانتخابات التعددية .
أما بالنسبة للدور العلمي للجامعات وللأسف فإنني أراها قد تحولت على ما يشبه المدارس ، حيث تلقى المقررات التدريسية وفي أغلبها أصبحت قديمة وتحتاج إلى تحديث للمناهج والإطلاع على الجديد وهذا أصبح متاحا شريطة التكرم من الجامعات بفتح المكاتب الإلكترونية العلمية أمام السادة أساتذة الجامعات والطلاب ليطلعوا على الجديد منهجيا بالإضافة إلى ضرورة طرح أفكار جديدة لتقدم على شكل رسائل بحثية في كل من الماجستير والدكتوراه .
وأريد في المقام أن أهيب بمجلس التعليم العالي والذي أصدر قانون تنظيم الجامعات الجديد والذي ترافق بما يسمى بالتفرغ العلمي أن يعيد النظر لكل من أساس الراتب والتفرغ الأول (الذي يتم قبضه مع الراتب الشهري) وبغية تحسين الواقع الاقتصادي لأساتذة الجامعات أن يقوم بضم التعويض المذكور إلى أساس الراتب وذلك لمعالجة الحالات التي رافقتنا بعد أن بلغنا من العمر عتيا فلم يعد من المناسب أن يخسر الأستاذ تعويض التفرغ في حالة طارئة ما بسبب صحي وقد حدث هذا لبعض زملائنا مما أدى إلى أن الدخل الذي أصبح يتقاضاه الأستاذ المنكوب بسبب حادث سير مثلا مساويا فقط أساس الراتب وله أولاد وأنتم تعرفون أن ذلك فيه حرمان وإحراج كبير ..فماذا يفعل ؟ لذلك أقترح ضم التعويض الأول إلى أساس الراتب وأما ما يتم صرفه على كونه المائة الثانية من التفرغ سنويا فيصرف بنسبة 50% من قيمة الدخل بعد مضاعفة أساس الراتب ، مما يبقى للأستاذ الجامعي يسد رمقه ولا يضطر إلى أن يريق ماء وجهه .
بالنسبة للجانب البحثي في الجامعات : فإنني أشدد وبإلحاح على تشكيل فرق بحث علمية ومراكز بحثية في كل جامعات القطر ويمكن أن تكون على شكل مجموعات كل مجموعة تبحث ضمن اختصاصها لعلنا نغار من الدول الأخرى فنسلك طريقها في التقدم العلمي ، كما هو الحال في ماليزيا وغيرها من الدول.
ثم فيما يتعلق بالخريجين من جامعات القطر وبعد تلقي الدراسات النظرية وكمية المعلومات اللازمة التي يمنح على أساسها درجة الإجازة فإنني أقترح أن تضاف سنة كاملة تمثل الجانب العملي والتطبيقي لممارسة المهنة (وخاصة المهندسين) في شركات القطاع العام وأن تكون شرطا من شروط منحه الإجارة وذلك تفاديا لما نلاحظه من الازدواجية بين النظري والتطبيق العملي وهذا يدعم الخبرة لدى الخريج ويفتح أمامه مجالا وفرصا للعمل في أية شركة سورية أو عربية مما يحقق مكسبا جديدا للدخل القومي بالقطع الأجنبي ، أي بعدها يمكن تصدير الخبرات إلى الخارج وما يرافق ذلك من تخفيف العبء على القطاع العام .
من هذا الباب يمكن الاستفادة من التعليم المسائي في الجامعات لمن يرغب من الطلبة وبالاختصاصات المختلفة مع مراعاة الرسوم المعقولة المفروضة على الطلاب ،بالإضافة إلى تحسين وضع الأستاذ الجامعي من خلال الدخل الإضافي الناتج عن التعليم المسائي .
11- الخدمات العامة: فيما يتعلق بالخدمات العامة مثل الصحة والخدمات الأساسية المدنية والبلدية :
نتمنى أن يكون العلاج أو الجانب الصحي في مشافي القطاع العام حتى ولو كان مأجورا ، أو في عيادات شاملة تبنى خصيصا لهذا الغرض ، والعلاج فيها بأسعار مخفضة، على أن تكون بالقدر الكافي عدديا ونوعيا وعلى اتساع رقعة الوطن بدلا من مسألة الضمان الصحي الخاص الذي يعرض المواطن إلى مواقف أشبه ما تكون بحالة التسول والمعاملة السيئة من قبل شركات الضمان التي لا يهمها سوى الربح فقط .
أما بالنسبة لما يتعلق بالخدمات العامة مثل المياه والطرق والخدمات فلابد من وضع استراتيجيات وبرامج تهدف لتأمين هذه الخدمات بالشكل الأمثل .
د. أحمد الناصر
أستاذ بقسم الطاقة الكهربائية
كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية
جامعة البعث