لطالما أحبَبْتُ صالة انتظار القادمين في المطار بسبب لهفة أي شخص للقاء أناس أو أقرباء أو أصدقاء ينتظرهم، وبنفس حالة الحب لصالة الانتظار، لا نكره بل لا نحب صالة وداع المغادرين لأنها ستفرقنا عن أعزاء علينا.
وأنا تضاعف عندي شعور الحقد على صالة الوداع بسبب حالة ــ استعارة حقيبة السفر الكبيرة خاصتي من قبل شخص ربما أعتقد أن في حقيبتي ضالته، فبعد قيامي بوداع قسم من عائلتي الصغيرة، التفت للوراء لأخذ حقيبتي والعودة للعاصمة، لم أجدها، وللعلم فقد كان بداخلها ــ الحيلة والفتيلة ــ وليس هذا هو المهم، فالمسألة لا تقدر بشيء أمام الخسارات التي نعيشها يومياً، بل المهم كان عند ذهابي للتقدم للجهات المسؤولة في المطار بالشكوى عن فقدان الحقيبة، فكان الموقف الطريف عندما طلبت من الرجل المتمسّك بكرسيه خلف مكتبه أن يطلب شريط التصوير للكاميرات الموجودة في مداخل وصالات المطار، فضحك الرجل وكأني أخبرته نكتة خفيفة الدم، ولمـّا تأكد من تعابير وجهي أني أتكلم بجدية، أجابني الرجل لا وجود للكاميرات، لا الخفية منها ولا الظاهرة، وطبعاً اختلاف وجهتي النظر أدى لاحتدام النقاش فأنا كنت أنطلق من مصلحة الوطن العليا في السؤال عن ضرورة وجود كاميرات تغطي كل ساحات المطار تكشف وتسجل كل شاردة وواردة، كل داخل وخارج، مثل كل مطارات العالم، وخصوصاً في الظروف الحالية، فأنا دخلت بحقيبتي السابقة دون تفتيش إلى داخل صالات الانتظار، وهذا ما حاولت إيصاله للشخص الجالس أمامي، وأضفت عندما تصرف الأموال الطائلة على إنشاء وصيانة وترميم المطارات ما خطر ببال أحد نصب كاميرات وإحداث غرف مراقبة لكل أقسام المطار تحسباً لمفاجآت لا سمح الله، وطبعاً كل أسئلتي كانت تقابلها نظرات دهشة واستغراب من قبل الأخ وما أكد ليّ استغرابه سؤاله ليّ: يا أستاذ يعني الحقيبة فيها شيء مهم؟
هنا ابتسمت، لأنه لم يقدر مصلحة البلد العليا في وجهة نظري بل أخذ الموضوع من وجهة نظره المنطلقة من مصلحتي الشخصية الدنيا، وطبعاً لن أكون مثل شعراءنا واجتهاداتهم الشعرية بأن الوطن أحمله في حقيبتي عندما أسافر، وأني أعشق المدن التي تتواجد ليّ فيها حبيبة وغير ذلك، بل أخبرته وأخبركم بأن حقيبتي كانت كل ما أملك عند سفري وتنقلي وفهمكم كفاية.
اتفقنا أخيراً أنا والجهات المسؤولة عن سلامة المطار والناس فيه على أن ينادوا بالميكروفون لمن وجد حقيبة أن يأتي بها لمكتبهم وأخذوا رقم هاتفي حتى يبشروني بأنهم وجدوها، وما لمْ نتفق عليه هو أن يعطوني وعداً بأن يرفعوا اقتراحي لمسؤوليهم بخصوص تركيب كاميرات حديثة تكشف كل شيء داخل المطار لأنهم لم يقتنعوا بأني طرحت فكرتي هذه انطلاقاً من خوفي على المصلحة العامة، بل اقتنعوا أني انطلقت من أنانيتي الذاتية الحقيرة.
وأنا متأكد أن الحقيبة ذهبت والكاميرات لم تركب وأنا لن أخبركم عن أي مطار دولي أتكلم إلا أني أحتفظ لنفسي بحق الرد إذا قام مسؤولوا الطيران المدني بتكذيب روايتي هذه.
الشعب الفرنسي تظاهر في إحدى مظاهراته ضد الإمبراطورة ماري أنطوانيت ــ المعروفة جداً ــ وكان مطلب الشعب الفرنسي: الشعب يريد أن تلبس الإمبراطورة الفستان لأكثر من مرة ــ هذا لأن ماري أنطوانيت ــ كبيرة القدر ــ كانت تلبس الفستان الباهظ الثمن ــ من أموال الشعب الفرنسي ــ لمرة واحدة فقط، وأنا وأقولها وقلبي يحترق، لبست بذلة رجالية رسمية رائعة لمرة واحدة فقط في مناسبة عائلية ثم سرقت مع الحقيبة الضائعة، إنها الأقدار التي جمعتنا أنا وماري أنطوانيت ولويس السادس عشر والليدي أوسكار في مطار يسير وفق مبدأ:
على رأسي حارتك خاي.