إذا كانت الثقافة قد بدأت من زراعة الأرض، فإنها تعني انتقالاً نوعياً من رحلة الانتماء الغريزي السديمي إلى الكون ، إلى الانتماء الواعي الفاعل في الكون، وقد أُفصح عن ذاك الانتقال بالتقابل بين مرحلة التدجين وإنبات الأرض وبالنتيجة الاستقرار الذي قاد إلى الفعل الكيفي الأفضل واكتشاف العالم خطوة، خطوة.
ومن هنا غادرت الكلمات والمصطلحات الدلالات المباشرة، لتؤدي في سياقات أخرى دلالات جديدة، وهذا ما جعل اليونيسكو تُهيئ تعريفاً لـ(الثقافة) في غاية منها لتوحيد المصطلح العالمي حتى تسهل عملية ضبط (الأطراف) وهي تحاول الانعتاق من سلطة المركز. (إن الثقافة بمعناها الأوسع يمكن أن يُنظر إليها على أنها جميع السمات الروحية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم التقاليد والقيم والمعتقدات).
وأما المثاقفة فهي عملية تالية، وتعني المشاركة في الفعل الثقافي مع الآخر، فعلى صعيد الأفراد تحصل برغبة ذاتية أو بمشروع فردي كما فعل أدونيس مع الفرانكفونية، وكما يتثاقف الآن مع الأنجلوساكسونية. وليست المثاقفة حديثة العهد - كما يدعي - بعض (الحداثويين)، فقد بدأت طلائعها الأولى بين الشرق الأسطوري واليونان التجريبي، وبين اليونان من جهة والرومان من الجهة الأخرى، ومعظم العاملين في الحقل التاريخي يدركون أهمية المثاقفة المؤسساتية التي أجراها المأمون ت 218هـ- 876م مع الإرث اليوناني (طب، فلسفة)، وفي إثرها توازن العرب مع الفرس الذين ثاقفت نخبهم العربَ من دون استئذان أو رد فعل عربيين.
وكان رائد المثاقفة الفردية ابن المقفع (ت759م)، فقد أدخل إلى الثقافة العربية طريقة تفكير جديدة فيما يخص العلاقة بين الرعية والسلطان ، وبين المفكر النخبوي ورجل السلطة (رسالة الصحابة)، مؤسساً بذلك للآداب السلطانية. وقد وضع حداً للشعر، فالشعر العربي سلطاني اللغة والتفكير، فيما جاءت رسالة الصحابة، والأدب الكبير والصغير نثراً ناقداً يؤسس للانفصال الفردي بين المثقف ورجل الملك. ثم توالى من بعده مفكرون ومصنفون في طليعتهم الماوردي علي بن حبيب البصري ت 1058م الذي وضع كتابه المشهور (أدب الدين والدنيا)، فتأسست في العامة والخاصة فكرة وجود الطرفين (ولم يكن من قبل إلا طرف واحد)، الرعية التي لها حقوقها وعليها واجباتها، والملْك (بسكون اللام) الذي ينبغي عليه الاعتراف بحقوق الرعية عليه، وبحقه عليها.. إذاً، بدأت مثاقفة جديدة، تبدو في شكلها مثاقفة دينية، لكنها في مضمونها ونتائجها سياسية أفضت بفعل التراكم المتزايد إلى ثقافة نقدية سياسية، لا تقبل بالجواب المألوف، إنما تسعى لبناء التساؤل الاستقرائي. وقد حاول بعض الشعراء (غاب اسمه) أن يفصح عن هذا المناخ فقال
ولو أني جُعلتُ أميرَ جيشٍ
لما قاتلتُ إلا بالسؤالِ
فإنَّ الناسَ ينهزمونَ عنهُ
وقد ثبتوا لأطرافِ العوالي
ومن نافل الذكر أن ما نسمعه اليوم أو ما نقرؤه أو ما يشغلنا عن (الهوية)، أن السياسيين السلفيين والعربويين رفعوا عقيرتهم ضد الأحادية الشيوعية على أنها إقصاء للتاريخ القومي والثقافة الأصيلة، وأن تفصيلات ماركس وإنجلز ولينين للأثواب الأممية لا تناسب الأجساد العربية. وقد كتب هذا توفيق الحكيم في (أدب الحياة)، وأشاعت الأحزاب العربوية مثل هذا في الأدبيات.. إلى أن جاء في مأثورات ميشيل عفلق (وخضعت القومية العربية لمؤثرين مختلفين في الصيغة متفقين في التوجه (الشيوعية المحلية والاستعمار العالمي).
وغني عن البيان أن مثل تلك الآراء قد حالت بين الرؤية السياسية العميقة للعالم وبين انشغالاتنا (سورية - العراق - مصر) بجدولة الأوّليات، مما أوقع العقل السياسي التقدمي (العروبوي) حصراً بمأزق القومية والدين، فلجأ إلى مقولة مسطحة لا تنتصر للعقل ولا تنتصر على غيره (العروبة جسد والإسلام روحه).
وهنا تبدو (الهوية) مصطلحاً ضبابياً زائفاً، يُراد به الهروب من المسؤولية الكبرى، وهي الفصل بين الدين والدولة، ولا تقدّم -كما هي عند الشعوب المتقدمة - إلا بالبدء بها، ولكن كيف؟
لقد قدّم مفكرونا الكبار (حسين مروة، طيب تيزيني، محمد أركون، عبد الله العروي..) عبر مؤلفاتهم ومصنفاتهم - مشروع الفصل والتأسيس في سعي منهم - رغم اختلاف مناهجهم - للدخول إلى العصر.. كما فعل ابن المقفع والماوردي والزرنوجي والشاطبي والكندي.. والغريب أن ردود الفعل من المؤسسات السياسية العربية المعاصرة تشبه - إلى حد بالغ - ردود فعل مؤسسة الخلافة والإمارات من بعدها، والمشابهة قريبة جداً بين حصار السلفية المصرية لنصر حامد أبو زيد وبين محاصرة المؤسسة الخلافية لابن رشد، إذ جيشت العامة ضده إلى أن نُفي إلى خارج الأندلس وتوفي عام 1198م.
ومن المقولات الستاتيكية التي احتمى بها القدماء والجدد (الثوابت)، وسبق لنا أن أثرنا هذه القضية في مقالة سابقة على صفحات هذا المنبر التقدمي. والثوابت تشكل للثقافة السلفية (سياسياً، دينياً) بعداً استراتيجياً هو (الاحتماء) بغية (الاكتفاء) بما هو قارٌّ، وفي الوقت نفسه تعزز ظاهرة (الانكفاء) عن العصر وتغيراته وتحولاته. فالهوية الثقافية لم تعد تقبل (النمذجة المثالية) التي صاغتها عقلية القرون الوسطى، فصارت الخطابات السياسية المتغايرة- على اعتقادنا - تشكل الهوية الجديدة. فلا يمكن صياغة الهوية من (الأحادية التراثية) ولا من أحادية البعد القومي.
فكما تشكل مفهوم الأمة الإسلامية من المثاقفة بين العرب والفرس والعرب واليونان، وفي طور لاحق بين العرب والترك، فإن مفهوم الأمة العربية أخذ يفصح عن نفسه بديلاً من مفهوم الأمة الإسلامية، وهو أيضاً تشكل من المثاقفة التي أجرتها النخب العربية النهضوية مع أوربا الحديثة, ونشير هنا إلى فرح انطون وشبلي شميل وعبد الحميد الزهراوي والأخوين عبد الرزاق وسلامة موسى والطهطاوي وطه حسين، ومن قبل هؤلاء محمد علي باشا 1805 - 1849 صاحب المشروع الرائد في بناء الدولة غير الدينية. ولعل عبارة ولده ابراهيم عندما دخل الشام 1831م وتابع، فوصل إلى نهري سيحون وجيحون فقال (هذا ما يفصل الشعوب الناطقة بالعربية عن الشعوب الناطقة بالتركية). ويعلق المؤرخ الروسي لوتسكي في موسوعته (تاريخ الأقطار العربية) فيقول (إن حركة محمد علي تؤسس لحركة التحرر العربية).
وفيما نراه من رأي يتاخم حدّ الاعتقاد القطعي أن الانتماء الحقيقي للأمة يستلزم بالضرورة وسائل ثقافية منفتحة تؤمن بالاستزادة عبر التحول والتغير والتغاير كبدائل عن الثوابت والناجز النهائي، ونذكّر - هنا - على التحديد بمشروع الشاعر الناقد أدونيس، عندما صاغ مشروعه تحت عنوان (الثابت والمتحول) في مطلع سبعينيات القرن العشرين، ولقي ما لقيه من القذف والتخوين والإعراض والتعريض، إلا أن الرجل مضى في مشروعه، وقد عززه في كتابه (فاتحة لنهاية القرن) ،1989 وما رأيناه في بداية القرن كان قد أشار إليه لا كشاعر بل كناقد.
يذكرني أدونيس بشاعر هو الأعظم في تاريخ العرب، إنه أبو نواس، إذ صاغ مبكراً مشروع المثاقفة مع النموذج الفارسي المتقدم على النمذجة العربية البدوية والحضرية. وما يزال أبو نواس يُرمى من السلفيتين الدينية والقومية، بالزندقة وبالشعوبية، كما يُرمى أدونيس اليوم بـ... إلخ. ومما يحضرني من أبي نواس قوله
ولا تأخذْ عن الأعرابِ لهواً
ولا عيشاً فعيشُهمُ جديبُ
فأينَ البدوُ من إيوانِ كسرى
وأينَ من الميادينِ الزروبُ!
فكما ارتاب العرب -في تجربتهم الأولى مع الدولة - من الاستعلاء الفارسي، يرتاب بدو الجزيرة النفطية - اليوم من التقدم الإيراني، ويرتاب معهم بدو الحواضر الجدد، فينكفئ الطرفان إلى الخلف، في محاولة لرفض المثاقفة مع جارهم الإيراني الذي أخذ يستعيد مجده الإمبراطوري الفارسي ويسبقهم إلى ثقافتهم العربية الإسلامية ، بل إلى امتلاك لغتهم.
يرى المشروع الإسلامي القرون الهجرية الأولى معجزة لا يمكن تجاوزها، بل إن بعض المفكرين يرون العقود الخمسة الأولى التي تلت (الوحي) هي - وحدها - المعجزة، وهذا ما حال بينهم وبين رؤية العالم الجديد، بل حال بينهم وبين الثقافة العقلانية في التراث العربي الإسلامي.. ومما نراه لافتاً حضور الغزالي في شطره الارتدادي ت 1111م وغياب ابن رشد في نزوعه النقدي العقلاني في الأبنية السلفية.
واللافت الأغرب غياب (تجريبية الكندي) 873م الرائدة عن المقولات السلفية والأبنية الثقافية النهضوية ، على الرغم من أن نزعته تلك كانت خطوة تأسيسية في التهيئة للتفكير الحر الذي ساهم في توزيع رؤية الذهنية العربية للعالم.. ويبدو - بل صار مؤكداً - أن التعصب الديني والتعصب القومي كان لهما فعلهما السلبي في علاقتنا مع التراث ومع العالم. وأضيف نافلاً أن ظاهرة (الشعرنة) التي حكمت الذهنية العربية قد عززت ظاهرة التعصب وخلقت مناخاً ساهم في تضخيم الذات والتركز حول النظرة الواحدية للتاريخ. وقد وقع في (الواحدية) تلك معظمُ شعراء الحداثة، عندما أعلنوا عن القطيعة مع الأبنية العقلانية في الشعرية العربية التي يمكن أن تساهم في صياغة مشروع الحداثة، أستثني هنا (أدونيس) فهو - وحده - ابتدأ من الأعماق التراثية هاضماً ناقداً، ثم خرج منها ليؤسس عبر المثاقفة مع العالم الجديد مشروعه البنائي.
ومن التعصب إلى المثالية- فالمثالية التراثية - لا تقبل أن تكون قارةً في الواقع إنما تبقى في الميتافيزيقا، مما ساهم في الحيلولة بين النظرية النقدية والركام التراثي. وهذا كان أصلاً ولا يزال في الخطاب التربوي العربي والآخر الأكاديمي ماثلاً فاعلاً.في إثر ما تقدم نسمح لأنفسنا بالبحث عن المخارج، فنلتمس البداية في تعزيز التعليم العلماني منذ المراحل الأولى إلى تعزيزه الأعمق في جامعاتنا التي أضحت عبئاً أكثر مما هي ضرورة. ونرى في تعزيز التفكير التجريبي خطوة ضرورية، ومن ضرائرها أن تُرافق بتحقيق الدرس الفلسفي كوجهين لاتجاه واحد.. هو معرفة قوانين الكون، ثم استثمارها في تعزيز النزعة العقلانية... فهي إلى جانب المثالية الدينية تخلق التوازن والاستقرار لا من موقع السكونية أو التراضي ، إنما من موقع الحراك الذهني الذي يُغري بالبحث عن (الحرية) بمعانيها العيانية لا المثالية على أنها الهدف الأعظم.