روى لي صديق من جمهورية (سيراليون) يدعى (هاكي ماكي) فقال: ولدت في مدينة (كيماكوي) وتعلمت في مدارسها، وحين حصلت على الشهادة الثانوية، قرر أبي إرسالي إلى العاصمة (فريتاون) كي أتابع دراستي في جامعتها..
وأوصاني قائلاً: اسمع يا بني.. أنت ذاهب إلى العاصمة.. وهي بعيدة جداً عن بلدتنا ولا نعرف عنها شيئاً، عدا ما تقوله الإذاعة، ونصدقه.. وأرجوك اكتب لي رسالة، وصف لي الأحوال هناك... وأعرف أن الحكومة تراقب الرسائل الواردة والصادرة.. فإن كانت الأحوال جيدة فاكتب لي بالحبر الأزرق.. وإن لم تكن كذلك، فاكتب لي بالحبر الأحمر..
وهكذا.. بعد مرور شهر سطّرت لوالدي رسالة بالقلم الأزرق.. وقلت له فيها: إن الأمور هنا عال العال.. الجامعة أسكنتني في غرفة سيّاحة نيّاحة.. وصرفت لي راتباً يكفيني، ويزيد.. والمدينة على العموم هادئة.. ولا تلوث فيها، لأن شوارعها فسيحة، وسياراتها لا تنفث الدخان.. وأما المساكن فمتوفرة للجميع.. بأثمان زهيدة وخاصة للشبان المُقدمين على الزواج.. ومن أراد الحصول على منزل، يمنحه المصرف قرضاً من دون فوائد، تقسيطاً لمدة أربعين عاماً...
المواد التموينية رخيصة للغاية.. وخاصة المواد الأساسية من لحوم وخضراوات وفواكه، ومن سمون وزيوت... ومن برغل، وفريكة، وأرز، وتصور يا والدي، هنا في (فريتاون) يُحلّون الشاي، بالسكَّر، وليس بالدبس، كما نفعل نحن في بلدتنا!.. والأعجب أنك إذا اشتريت كيلو شاي، يمنحونك ثلاث كيلوات سكر مجاناً... والملابس أرخص، فكلما اشتريت عشر قطع ملابس داخلية (فوقاني، تحتاني) يمنحونك طقم جوخ كهدية...
وأما الطبابة فمتوفرة مجاناً في المشافي الحكومية.. وهي غاية في النظافة والتجهيزات.. ناهيك عن الابتسامات التي يستقبلك فيها الأطباء والطبيبات.. والممرضات الحسناوات.. وتصوّر أن وزير الصحة استقال في الأسبوع الماضي بعد اكتشاف أجهزة الرقابة لصرصور يتعمشق على الدرج الخارجي، ويحاول التسلل إلى المشفى!... ولك أن تتصور حالة الركود التي تعاني منها المشافي الخاصة.. على الرغم من أسعارها المتدنية، وتطبيقها الدقيق لما يعرف بـ (العشر الصحي)...
ولا تسألني عن سوق العمل، فالصحف المحلية تصدر ملاحق لها كل صباح.. وما على طالب العمل سوى الاختيار.. ثم الذهاب لتولي عمله من دون سؤال إن كان الطالب من اللون الأزرق، أو الأصفر، أو الللازوردي، أو السيكلما.. وهو لا يحتاج إلى (كرت) توصية، ولا إلى هاتف وساطة.. فالكل سواسية أمام فرصة العمل... ناهيك عن أن فرص العمل أكثر من المتقدمين إليها.. وهذا عائد إلى خطط التنمية الخمسية، التي أُقصيت عنها الأيادي الليبرالية... وأُصلح القطاع العام عاماً بعد عام.. وأصبح تمام التمام!...
كن مطمئناً يا أبي.. كل شيء متوفر هنا بما في ذلك لبن العصفور.. طبقاً للدستور.. ما عدا الحبر الأحمر يا والدي!!!!.....
مطرقة: وليد معماري