هذه محاولة لإلقاء الضوء على مصطلح الفوضى الخلاقة الذي شغلنا بظهوره منذ عدة سنوات باعتباره الوسيلة الجديدة للدول الغربية للسيطرة على مقاليد الأمور في الشرق الأوسط
لقد حاولنا جميعا أن نجد تجليا واضحا له منذ ظهوره ولكن أعتقد أننا لم نصل إلى إجابة شافية، بل ربما كففنا عن البحث عن إجابة، ولكن ما تشهده منطقتنا العربية من (ربيع خلاق) ربما يعيد للأذهان أهمية فهم هذا المصطلح.
يعود ظهور هذا المصطلح إلى بداية احتلال العراق، ولكن لم يكن تجليه واضحا أو ناجحا، و بطريقة أدق، ربما لم (يوفق) أصحاب المصطلح ببناء الفوضى الخلاقة في العراق بطريقة تعطيهم النتائج المتوخاة، فكانت فوضى وبالطبع كان لها نتائج ولكن هذه النتائج لم تكن خلاقة بالدرجة التي توقعها المحتل.
بعد دراسة هذه التجربة، أعتقد أن أصحاب المصطلح قد عدلوا أسلوب التطبيق ليعطي نتائج أفضل وقدموا لنا ما يدعى الربيع العربي.
إن أهم العبر التي يمكن أن يبني عليها من تجربة العراق – من وجهة نظر المحتل طبعا – هي التالي:
على اعتبار أن تغيير الأنظمة القوية لا يمكن أن يتم بالحصار الجوي والاقتصادي وحده، وأنه لابد من وجود قوة على الأرض تقوم بإتمام العملية، فقد أثبتت تجربة الاحتلال العسكري أنها مكلفة جدا، حيث أنها تولد معارضة قوية في الدولة المعتدى عليها لأنها تترافق مع عدد كبير من الخسائر في الأرواح وتدمير البنية التحتية وافتقاد الأمن وانتشار الفساد بعد الاحتلال ونشوء مقاومات مسلحة وربما مدعومة من دول الجوار، وكذلك تولد معارضة قوية على الجهة الأخرى في الدولة المعتدية على اعتبار أن هذه الحرب مرهقة ماديا وغير مبررة أخلاقيا ومترافقة مع عدد كبير من الخسائر في أرواح العسكريين. أضف على ذلك أن الوجود في خضم الفوضى والتورط الميداني له مضار كثيرة لعل أهمها عدم القدرة على التأثير الكبير في الجماهير العريضة على اعتبار أنهم قوة احتلال مرفوضة.
ما هو البديل القادر على تحقيق النتائج المتوخاة بطريقة أفضل مع تفادي النتائج السلبية التي رافقت تجربة الفوضى العراقية – ومرة أخرى من وجهة نظر غربية؟؟؟
الجواب يمكن صياغته بناء على ما تقدم وبناء على تحليل وقائع الربيع العربي:
الإعلام - الذي تم إهماله ولم يتم استغلال كامل إمكانياته سابقا – سيستخدم كسلاح أساسي ورأس حربة في إيجاد بديل مناسب لقوة الاحتلال العسكرية المباشرة والتي ترتب على استخدامها معظم النتائج السلبية السابق ذكرها، وعبر هذا الإعلام، سيتم عن بعد خلق الفوضى وتوجيهها لتحقيق النتائج المطلوبة.
سيلعب الإعلام على التناقضات الاجتماعية الداخلية والمطالب الشعبية المحقة والأخطاء التراكمية لأجهزة وحكومات الدول المستهدفة، وذلك بطريقة عالية الاحتراف وشديدة الحرص على الظهور بمظهر الجهة المحايدة والتي لا تملك أي أجندة إلا دعم الشعوب المظلومة، وذلك للمحافظة على المصداقية بنظر الجماهير المستهدفة، مع الأخذ بالعلم أن هذه الصورة المحترفة ستكون بعيدة كل البعد عن الحقيقة وسيكون مباحا للإعلام بان يكون متحررا من جميع الضوابط الأخلاقية والمهنية.
وهنا نقطة غاية في الأهمية يجب الإشارة إليها وهي تجيب عن تساؤلات كبرى: لماذا بدأت الثورة في تونس ومن ثم مصر، ولماذا امتدت لدول أخرى ليست ذات أهمية كبرى كاليمن وليبيا، وذلك قبل أن تصل إلى بيت القصيد........سورية؟؟؟
الجواب: لإعطاء المصداقية للأسلوب الجديد وللوسائل الإعلامية المنخرطة في العملية (بغض النظر عن اللغة الناطقة عربية كانت أم انكليزية) وذلك عبر استهداف أنظمة صديقة معروفة بولائها للغرب، وحتى أنظمة لا أهمية تذكر لها، فلو تم في البداية وبشكل مباشر استهداف أنظمة معروفة بالعداء للغرب، لفقدت العملية عنوانها العريض المتمثل بثورة الشعوب ضد الطغيان ولسقط الأسلوب من اللحظة الأولى، أما وقد تم استهداف الأصدقاء فتسقط الشبهة عن الأسلوب الجديد وعن أدواته الإعلامية. فأرجو الانتباه على أن ثورة مصر وتونس لم تأتي إلا بذات الوجوه القديمة ولم تغير من النظام الحاكم قيد أنملة من ناحية الولاء للغرب، أما في ليبيا، فلا حاجة للتعليق على ولاء المجلس الانتقالي.
وبالعودة إلى اللعبة الإعلامية، فإنها ستعمل على تحقيق مجموعة من الأهداف التسلسلية التي يمكن إجمالها بالتالي:
1. تحريك مشاعر الجماهير العريضة وتكوين مناخ شعبي معادي لكل ما يمت بصلة للدولة.
2. دفع هذه الجماهير نحو حراك شعبي في الشارع، يبدأ متدرجا في الحجم وفي المطالب وتصاعد حتى يصل إلى الحد الأعلى وهو إسقاط النظام.
3. العمل على تشكيل نواة لمعارضة في الداخل تعمل على تصعيد الوضع الأمني عبر افتعال حوادث أمنية خصوصا خلال التحركات الشعبية وذلك لدفع الأجهزة الحكومية إلى ممارسة القمع لهذه التحركات الشعبية واستخدام القوة المفرطة التي ستؤدي إلى وقوع ضحايا بين الجانبين وانتشار العنف والعنف المضاد بين الأجهزة الحكومية وبعض الفئات الشعبية المتضررة من النظام.
4. التركيز على العنف في الشارع وتضخيمه وتحميل مسؤوليته للدولة وحدها وتصوير الأجهزة الحكومية على أنها آلة تقتل كل ما يتحرك.
5. دعم الدعوات المطالبة بتدخل أجنبي لحماية الجماهير الثائرة من سطوة الأجهزة الحكومية، حيث سيكون هذا التدخل بالعقوبات والحصار والقصف الجوي الذي سيستمر مع دعم المعارضة المسلحة وإضعاف النظام شيئا فشيئا حتى سقوط النظام.
إن ما اختلف عن التجربة العراقية أن الغرب لن (يوسخ أيديه) بالتورط الميداني وما يرافقه من الخسائر السالفة الذكر، فيبدو أن الربيع العربي وسيلة نظيفة فعالة تؤدي إلى نتائج أفضل وبأقل الخسائر.
في النهاية، ما اعلمه أنه لم ولن يأتينا خيرا من أي ربيع مادام غربيا ولابد من رفضه ومقاومته جملة وتفصيلا، شعبا ودولة. ولكن ذلك لا ينفي أننا نعاني من أمراض مزمنة كادت أن تصبح عضالا ولابد لنا من معالجتها قبل أن تلتهمنا من الداخل، شعبا ودولة.
عشتم وعاشت سورية