لماذا يحب كل أطفال العالم لعبة الاختباء .. أو ما يسمى بالطميمة ؟!
هذا ما سألته لنفسي حين قادتني قدماي ذات يوم دمشقي مشمس إلى احد الحدائق القريبة .. وجلست أتأمل أطفالاً كالفراشات ، يركضون مبتهجين ومتخفين خلف الأشجار على مرمى نظر أهاليهم المتحلقين حول الأباريق والاراجيل وطاولات الزهر وبعض النميمة والثرثرة .
كنت قد اصطحبت معي كتاباً أود قراءته في هذا الجو الرائق الأنيق ،، لكنني سرعان ما طويته حين وجدته سميك العبارة ،، متجهم الفكرة ،، سمج الأسلوب .. وسافرت شارداً – وأنا في مقعدي – مع هذا السرب الحالم حولي من الأطفال المشاكسين ، مختفياً خلف نظارتي الشمسية السوداء ، وخلف مكابرتي العمرية التي لا تسمح لي بالركض معهم والصياح واللعب والتخفي .
ترى .. لماذا يفرح الأطفال حين يتعب أترابهم في مهمة اكتشاف مخابئهم ، كما يبتهج خصومهم عند إيجادهم وكأنهم عثروا على كنز ثمين في هذه اللعبة الآسرة التي تجمع بين ثنائية الخفاء والتجلي .
هل هذا هو الحنين إلى رحم الأم الذي تختفي فيه جنيناً وتكتفي بسماع نبض قلبها الذي يختصر كل العالم ، فلا ترى حولك أحداً ولا يراك احد .؟
أم أن متعة اكتشاف المخفي والمخبأ هي نفسها فرحة الاكتشاف وبهجة المعرفة الأولى .؟
كم أحببت مشهد الطفلة وهي تضع كفيها الصغيرين على عينيها العسليتان ، وتدير رأسها وتسأل ببراءة : ( فتح ولا ما فتح ؟؟ ) فيجيبها الصبي المشاكس باقتضاب : ( أي ) ثم يركض في لمح البصر إلى مكان آخر حتى لا تقتفي اثر الصوت ومكانه .
قد يتسلق شجرة ، أو يرتمي في حفرة ، فيطول بحثها عنه إلى أن تعلن عجزها ، فيظهر الصبي مثل خبر مفرح وفي مكان لم تتوقعه الصبية المتعبة .
وجدت نفسي ودون أن أشعر أدخل معهم اللعبة وأنا في مكاني ، فاقترح عليهم أمكنة منيعة ومموهة للاختباء ، لم تكن لتخطر في ذهني أثناء طفولتي ، إلى أن همس لي ولد باقتراح غريب : ما رأيك ( عمو !) في أن أرتدي معطفك ونظارتك الشمسية وأجلس محلك وتنصرف أنت إلى مكان آخر ؟!
- حسناً ،، ولكن حجمك صغير داخل هذا المعطف ووراء هذه النظارات ؟!
- هي لن تفكر في النظر إلى المقعد الذي اعتادت على رؤيتك فيه ،، مهما كان حجمي .
أعجبتني الفكرة ،، بل أقنعتني ،، فوافقت مسرعاً ،، ونفذنا الخطة التي رسمها عقله البريء ، فتعبت الصبية وهي تبحث عنه حتى يأست من اكتشاف مكانه ، ... أشفقت عليها وأومأت لها بإصبعي بإشارة خفية عن مخبأه .
اختفت الشمس وراء سحابة كبيرة ، وغادر الأطفال مع أهلهم ،، عادوا من حيث أتوا ،، وبقيت وحدي استرجع الصدى الذي خلفوه وراؤهم ،،
أتت نسمة ريح باردة فجأة ، حملت لي رائحة تعبهم ورائحة سعادتهم ،، حامت حول قدمي بضع وريقات لأشجار داسوا عليها أثناء ركضهم المحموم بحثاً عن مكان للاختباء ،، لم انتبه إلى أنني أصبحت وحيداً في هذه الحديقة .
في منزل جدتي القديم ،، كنت صغيراً ، صغيراً كحلم ،، كنقطة مطبوعة في مصحف ،، حينما كنت أصر عليها أن تلعب معي لعبة الطميمة ،، كانت تبتسم لي بحنان وتقول : اختبئ الآن ،، بسرعة ،، لقد أتت تبحث عنك ؟؟!
فأسرع و اختفي وراء ظهر جدتي ،، تحت ثياب صلاتها البيضاء الواسعة ،، مشدوهاً بخوف عن هوية تلك التي أتت تبحث عني ،، ؟؟ كيف تراها جدتي وتكلمها ولا استطيع أنا ؟؟ ولماذا لا تستطيع أن تراني مع أنني ( وفي عدة مرات ) أخذت بالتحرك قصداً تحت ثيابها البيضاء لكي تجدني ،؟، أقلقني كثيراً أنني أحببت وجهها وحضورها .. الغائب دوماً .
استفيق من أحلامي الصغيرة في مخبأي الأبيض على صوت جدتي وهي تقول لها :( ابحثي عنه في مكان آخر .. ودعيني أصلي ،، ) ،، واقسم أنني كنت اسمع وقع خطوات ما .. تذهب من حيث أتت . واقسم أنني كنت اسمع رجع أنفاسها تعبر عن خيبة أملها .. ليس في إيجادي فحسب ،، بل في مواصلة اللعب معي
تربت جدتي على كتفي الصغير تحت الغطاء بإشارة بت افهمها بأن الجو ملائم للخروج .. فأخرج وأنا أتطلع يميناً وشمالاً ،، لا أحد .. فتنظر إلي جدتي بحنان قديم وتشير إلي أن التزم الهدوء .. لأنها تصلي .
كم من مرة غافلتها وهي تصلي وأخذت أمشط أركان البيت كله بحثاً عن التي كانت تبحث عني ،، ولم افلح لمرة واحدة في إيجادها أو إيجاد اثر لها . اقلقني كثيراً أن تذهب خائبة ولم تجدني .
ولم تفلح جميع أسئلتي وإجابات جدتي المبهمة في لجم جبروت السؤال الكامن في داخلي منذ زمن بعيد .. والذي مابرح يكبر كلما كبرت أنا . من هي ؟؟ من هي تلك التي كانت تشاركني اللعب في ذاك المنزل القديم .. وأين كانت تختبئ ؟؟
الآن .. اختفت الاثنتان بعيداً خلف الأبد البارد ،، وطوت السنين ملاعب الهوى وبيتها القديم .. ثيابها البيضاء مازلت ترفرف في حنايا ذاكرتي كأجنحة طيور غادرت للتو أعشاشها ذات صباح .،، وحان دوري في اللعبة ،، أغمضت عيوني وبدأت العد .. لا أدرك ما هو الرقم الذي وصلت له .. ولكنني أدرك أنني في الأربعين .. ,أدرك أيضاً أن الطفل الصغير كحلم .. أصبح الآن ( عمو ) حين دخلت حياتي فجأة .. عبثت بكل أطياف عمري محدثة رفيفاً ذكرني بصوت ثياب عاشت في ذاكرتي حيناً من الدهر .. نظرت لي بحنان .. حنان اسر خلاب .. وقالت : فتح .
نظرت لها ، وسألتها : أين كنت تختبئين ،، بحثت عنك في كل مكان ..
أجابت وعيناها الدمشقيتين الرائعتين تغزل آلاف المعاني الممكنة : كنت اختبئ تحت ثياب امرأة عجوز تصلي .. امرأة طيبة القلب .
عندها غادرت الحديقة .. ورميت النظارة الشمسية السوداء التي كنت اختبئ وراءها
.. وحملتها الريح .. إلى الأبد البارد .