يتفق المهتمون بالشؤون السياسية والثقافية على أن النزعة العقلانية والعلمانية في مجتمعاتنا العربية تراجعت وما تزال تتراجع عما كانت عليه منذ عقود.
وما يزال البحث في أسباب هذا التراجع مفتوحاً وتكثر فيه الاجتهادات والآراء. ولا يمكن للباحث الجاد أن يتلمس سبباً واحداً لذلك، فالأمر معقد ومتداخل، وإذا كان ثمة أسباب تتعلق بنشاط القوى والأحزاب العلمانية ذاتها، أي أسباب ذاتية، فإن ثمة أسباباً موضوعية خارجة عن إرادة هذه القوى وطاقاتها.
غير أن بعض الباحثين، ولا سيما بعض قياديي الحركات السياسية العلمانية، يعلقون كل شيء على الأسباب الموضوعية، أو يبالغون بتأثيرها مخففين من مسؤولية حركاتهم ذاتها، وهذا ما يزيد من تفاقم الأمر ويمعن في إبعاد هذه الحركات عن القيام بما يترتب عليها في مجال نشر النزوع العلماني والعقلاني في المجتمع.
وإذا كان من غير الممكن استقصاء الأسباب الذاتية والموضوعية للتراجع المذكور، في مقالة صغيرة أو حتى في بحث واحد، فإن الحوار حول هذا الموضوع ضروري وملح في المرحلة الراهنة، لأن نهوض المجتمع نهوضاً حقيقياً وتطوره في كل المجالات يرتبطان ارتباطاً حاسماً بحال العقلانية والعلمانية، وبأوضاع الحركات والمؤسسات السياسية والثقافية الحاملة لهاتين النزعتين.
إن مراجعة الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية منذ أواسط القرن العشرين حتى الآن، تساعد على تلمّس الكثير من أسباب تراجع العقلانية والعلمانية، فالقوى التي حملت هاتين النزعتين وسعت إلى نشرهما دخلت معارك جانبية فيما بينها، واحتربت فبددت الكثير من طاقاتها، وضعفت كلها في مواجهة القوى الرجعية التي استفادت كثيراً من ذلك الاحتراب، وشجعته، تماماً كما شجعته القوى المعادية لأمتنا، أي الصهيونية والإمبريالية.
وكان لهذه المعارك الجانبية أثر كبير في تخلف الحركات السياسية العلمانية والعقلانية ذاتها، إذ كانت كل حركة تسعى إلى التميز والتحدد والمحافظة على التماسك في مواجهة الحركات الأخرى، فتتقوقع على الذات وتتشدد في إبراز مواقفها المختلفة عن مواقف سواها، وتحرص على منع أعضائها من التأثر بالآخر، بل كثيراً ما كانت تمارس تثقيفاً داخلياً مضاداً للآخر العقلاني والعلماني والتقدمي.
وبطبيعة الحال، فإن ذلك سيؤدي مع الزمن إلى كثير من التحجر، وسيقوي الخطاب الأيديولوجي الانعزالي ويضعف الانفتاح الفكري الذي هو من سمات العقلانية، أي سيؤدي إلى تغليب نقاط الاختلاف والتباين على نقاط التلاقي في العلاقة بين هذه القوى، كما سيجعل خطابها السياسي والثقافي خطاباً تقليدياً يخضع فيه الفكري للأيديولوجي، والمتغير للثابت، والواقعي العملي للمتخيل البعيد، وسيكون بالتالي خطاباً غير متكيّف مع الواقع، بمعنى أنه لا يستطيع الجمع بين الكلمة المفهومة المقبولة والشعار الآني المناسب والهدف العلماني المطلوب.
لكن هذا كله كان متأثراً بواقع العلمانية داخل كل حركة من الحركات التي حملت لواءها. فلم ترعَ هذه الحركات العلمانية في صفوفها، ولم تحرص على تربية أعضائها تربية علمانية وعقلانية، فكثرت في هذه الحركات المقدسات التي تنزه عن النقد والمناقشة، وتفشت فيها ظاهرة الحرص على التماثل في الآراء والمواقف، وهي ظاهرة مناقضة للعقلانية والعلمانية، وضاق هامش حرية التعبير عن الرأي داخلها. وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، كان لا بد أن يضعف تأثير هذه القوى في مجال نشر النزوع العقلاني والعلماني، وتعزيز الفكر الديمقراطي في الحياة السياسية والاجتماعية.
لكن الأكثر خطراً من ذلك كله، أن بعض هذه الحركات حين تولت السلطة مارست في الكثير من المراحل أساليب القمع أو التضييق، لا على الفكر الرجعي والحركات الرافضة للديمقراطية والعلمانية والمضادة لحرية الإنسان في التفكير والتعبير والانتماء، وإنما على من يفترض أن تكون وإياهم في خندق واحد. فجرى الحد من النشاط العلماني والروح النقدية، بينما ظلت القوى اللاعلمانية تنشط في مجالات عديدة وتنشر أفكارها بحرية تامة.
إنني لا أدعو إلى التضييق على أحد، ولا إلى منع غير العلماني من النشاط والسعي لنشر أفكاره بأساليب مشروعة، ولكن ما يتاح له ينبغي أن يكون متاحاً لغيره، أي للعلمانيين ودعاة العقل وحرية التفكير.
ويزداد شعوري بأهمية هذا الأمر كلما أردت أن أتصفح بعض المواقع الإلكترونية فأجد ـ كما يجد غيري ـ الكثير من المواقع المحجوبة، لا لأنها مواقع إباحية أو ذات علاقة بالصهيونية أو غير ذلك، بل لأنها علمانية نعم لأنها علمانية.
إن عشرات المواقع الدينية مفتوحة أمام أي متصفح، فلمَ لا تكون المواقع العلمانية مفتوحة أيضاً؟
إن كل ما يؤدي إلى المزيد من إضعاف النزوع العلماني والعقلاني سيكون في غير مصلحة تقدم المجتمع، فلننتبه إلى ما نحن سائرون إليه.