مقدمة للقصة ليس لها أي معنى ولها مغزى فقط
أبطال القصة هم : أنا ، الرجل العجوز ، الفلاح النشيط ، العامل الماهر ، الطالب المجتهد ، العسكري الشجاع ، أنا ، سائق الـسيد (ع) السريع ( استعضت عن الاسم الحقيقي للسيد (س) بـ (ع) منعاً للمشاكل ) ، الموظف المستقيم ، أنا ، الحداد مفتول العضلات ، المعلم المخلص ، أنا ، أنا ، أنت ، أنتما ، أنتم ، أنتن .
_ لعن الله هذا الحر اللعين .. أف .. يا معلم خلصنا .
( الرجل العجوز الواقف آخر الصف قالها بتأفف .. مسح العرق عن رأسه الأصلع بمنديله القماشي .. شخر شخرتين ثم بصق على الأرض ) .
تقدمت شاحنة ضخمة إلى الفرن بأقصى سرعة مطلقة نفيراً أشبه بصوت الفيل الذي سمعته عندما كنت بالعاشرة حين زار مدينتنا سيرك روسي (مالكم ولقصص السيرك الروسي البليدة ؟؟!) ... راح الجميع يركضون بكل اتجاه .. الرجل العسكري بلباسه الميداني الكامل رمى نفسه على الأرض .. تدعكل (هكذا نسميها عندنا دعكلة ولا أدري إن كانت من اللغة العربية ) على الأرض بسرعة ولياقة ووقف على بعد سبعة أمتار .. الموظف صاحب البذة القديمة قفز قفزة واحدة فقط فابتعد ثلاثة أمتار .. الطالب المراهق ذو الشعر المصفف والذي يرتدي قميص أحد أندية السلة الأمريكية ركض كالحصان ... العامل المغتسل بالشحم والزيت المعدني انبطح تحت الشاحنة فمرت فوقه بسلام.. المزارع الذي يعمل حالياً كأجير مياوم مختص بخلط الاسمنت وقف مكانه كعمود الاسمنت المصبوب ولحسن حظه لم تصبه الشاحنة ... سائق (ع ) الناظر كل ثانيتين ونصف للساعة مرتعباً من التفكير بزوجة (ع ) والتي أمرته بإحضار الخبز من هذا المخبز بالذات ودون تأخير ... أصبح عجيناً آدمياً و ... (لم يعد يقلق من التأخير ).. أنا ، أنت ........ أنتن تحولنا إلى أشباح .. مرت السيارة من خلالنا .. ثم عدنا إلى طبيعتنا البشرية ... العجوز الواقف آخر الصف صدمته الشاحنة ورمته خمسة أمتار في الهواء ثم عادت ومرت من فوقه .. وقف بعدها ينفض الغبار عن ملابسه (من له عمر لا تقتله الشدائد ، وهذا من أمثالكم اليومية المعروفة والمذكورة والموصوفة لكل الحالات ، كما أنها قصتي وأنا حر بها .. مع عدم المؤاخذة ) .. بصق على الأرض مرة ثانية ثم صاح :
_ اتسخ القميص يا ابن ... .
أخذ الفران يحمل تلالاً من الخبز ويرميها بالشاحنة حتى امتلأت وراح الخبز يتساقط من جانبيها .. هز رأسه فانطلقت الشاحنة بنفس السرعة التي أتت بها ... عاد الواقفون إلى القفز والركض .. والعجوز صدمته الشاحنة مرة أخرى فطار ستة أمتار بالهواء دون أن تمر السيارة من فوقه هذه المرة ... عاد ينفض الغبار عن ثيابه :
_ البنطال .. يا ابن الـ .... .
عندما عدنا للوقوف بالصف كنت واقفاً أفكر باللحن الجنائزي الذي كان يصفره ابني الصغير صباح اليوم ... من أين أتى به ؟! .. برامج الأطفال غريبة هذه الأيام .. أم أنه سمعه من الراديو ؟ .. من الشارع ؟ .. من روضة الأطفال ؟ .. لا .. لا يمكن !!
ذلك اللحن جعلني متشائماً . قلت في نفسي .. يسترنا الله في هذا اليوم .
_ لم يبق خبز الآن ..عودوا بعد ساعة .
تصاعدت أصوات الاحتجاجات مرة أخرى .. عالية كأصوات المسيرات التي طالما سرنا فيها أيام المدرسة .. أشعرتني تلك الأصوات للحظة بالحماس قبل أن أشارك الآخرين ..
_ لا حول ولا قوة إلا بالله .
_ يعني لا داعي لأن نعمل .. يكفينا انتظار الخبز ... لا حول ولا قوة إلا بالله .
_ سيفوتني الباص .. أستغفر الله العظيم .
_ معلم المدرسة سوف يلعن ....
_ .......... لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
_ مهزلة .. ( صاح الرجل العجوز ))
_ إي والله مهزلة .
_ فعلاً مهزلة .
_ معه حق .. مهزلة .
تصاعد لحن ابني الجنائزي في رأسي مرة أخرى .. قلت في نفسي ... يسترنا الله في هذا اليوم .
_ ماذا نفعل الآن ؟؟
صاح أنا وأنت :
_ فلنرقص الدبكة حتى ينضج الخبز . وافق أنتما وأنتم على الفكرة بينما بدا على أنتن بعض الخجل النسائي من الفكرة لكن ودون تفكير أمسكت بيد العامل الماهر واليد الأخرى بيد الفلاح النشيط ... راح الواقفون يمسكون بأيدي الآخرين في سلسلة لم أرى نهايتها .
غنى الرجل العجوز بصوت جبلي .. أذهلنا جمال صوته رغم عمره .. راح الفران ينقر على شباك المخبز الحديدي كصوت نقر الطبل .
بدأت الدبكة قوية .. راحت الأرجل تدق الأرض بنشاط .. فبدت الدبكة كاستعراض عسكري .. أخذتنا الحماسة جميعاً .. زادت السرعة ودقات الأرجل شيئاً فشيئاً ... غنى الرجل العجوز عن فتاة جميلة .. عن المحبوب الذي هاجر وترك الحبيبة ست الحُسن .
_ حمار ابن حمار من يترك فتاة كتلك ويهاجر (قالها العامل الماهر)
_ إي والله حمار ابن حمار (أضاف العسكري).
همهم الجميع ... أنا .. أنتم ... الحداد ....... أنتن :
_ حمار
_ حمار
_ حمار
_ يعني .. ممكن عنده ظروفه الخاصة (علق الفلاح النشيط بينما كان يدق على الأرض فيثير الغبار وتابع الدبك )
مع مضي النصف ساعة الأولى واقتراب دفعة الخبز الثانية دب الحماس فينا أكثر وأكثر ... راح الرجل العجوز يغني أغان وطنية فكأننا بدأنا من جديد .. كان العرق يتصبب من جباهنا ولا نستطيع التوقف .. زادت نقرات الفران على شباك المخبز قوة .. راح الرجل العجوز يغني بصوت أقوى فأقوى .. والأرض اهتزت تحت أقدامنا .
عندما غنى الرجل العجوز أغاني الحرب ... تخيلنا أن هزة أرضية قد حصلت فتوقفنا لحظة .. و عندما أيقنا أن الأرض كانت تهتز بسبب دقات أرجلنا عدنا إلى الدبكة .. أقوى فأقوى .. فأقوى .
مضت الساعة الأولى فالثانية .... راح صوت العجوز يزداد قوة .. لكنه غير اللحن ... غنى عن الخبز .. اللحن نفسه الذي كان ولدي الصغير يصفر به ذلك الصباح ... لم أستطع التوقف عن الدبك ... كانت الحركة وكأنها لا إرادية .. حركة لا يمكن أن تتوقف .. قلت في نفسي .... يسترنا الله هذا النهار .
_ نضج الخبز يا شباب .
اندفع الجميع إلى شباك المخبز .. وتعالى الصياح ..:
_ خبز .. خبز .. خبز .
كومة هائلة من البشر تجمعت على شباك الفرن .. انضم المارة إلى الكومة .. أهل المدينة ، فلاحو القرى المجاورة .. حتى البحارة وصيادوا السمك سمعوا صياحنا فجاؤوا :
_ خبز .. خبز .. خبز .
اشتبكنا بالأيدي .... بينما راح الفران يدق على شباك الفرن الحديدي ...
_ بالدور يا شباب .. بالدور .
رفع العسكري مسدسه مهدداً .. أطلق طلقتين بالهواء .. العامل أخرج من جيبه مفكاً وراح يطعن به الهواء .. حمل الفلاح معوله .. أمسك به بصلابة .. الطالب المجتهد سحب حزامه الجلدي وراح يضرب الأرض به كالسوط ... مطرقة الحداد .. منشار النجار .. قلم المعلم ... كل الأدوات تحولت إلى آلات قتال .. الجميع تحولوا إلى مقاتلين ... حتى أنتن تخلت عن خجلها النسائي وراحت تلكم وتركل ... الرجل العجوز فكر قليلاً بالقتال قبل أن تجعله آلام الروماتيزم يعدل عن الفكرة .. مد يده إلى جيب بنطاله ..أخرج منديله القماشي وراح يمسح العرق عن جبينه وصلعته .. صاح :
_ مهزلة .. والله العظيم مهزلة .
صوت الفيل من السيرك الروسي عاد مرة أخرى .. هذه المرة لم نكن منتبهين .. طار الفلاح والعامل والعسكري بالهواء خمسة وعشرين متراً .. مرت عجلات الشاحنة على الطالب والموظف .. أنا ، أنت ، أنتما ، أنتم ، أنتن .. جميعنا أصبحنا عجيناً آدمياً ملتصقاً على جدار المخبز .
أخذ الفران يحمل تلال الخبز ويرميها بالشاحنة حتى امتلأت .. نفد الخبز فراح يحمل الفلاح ، العامل ، العسكري ..أنا .... ،.... ، ... أنتم ، أنتن على ظهر الشاحنة حتى أخذنا نتساقط عن جانبيها .
انطلقت الشاحنة .. وقف العجوز ينفض الغبار عن ثيابه .. بصق دماً على الأرض :
_ توسخ الحذاء يا ابن الـ ...... .